فالأول : ما الفرق بين الاستطعام والضّيافة؟ فإن قلت : إنّهما بمعنى ، قلت : فلم خصّصهما بالاستطعام ، والأهل بالضّيافة.
والثاني : لم قال : (فأبوا) دون (فلم) مع أنّه أخصر؟
والثالث : لم قال : (أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ) دون (أتيا قرية ،) والعرف بخلافه؟ تقول : أتيت إلى الكوفة دون (أهل الكوفة) ، كما قال تعالى : (ادْخُلُوا مِصْرَ) [يوسف : ٩٩].
والجواب عن الأوّل : أنّ الاستطعام وظيفة السائل ، والضّيافة وظيفة المسؤول ؛ لأنّ العرف يقضي بذلك ، فيدعو المقيم إلى منزله القادم : يسأله ويحمله إلى منزله.
وعن الثاني : بأنّ في الإباء من قوّة المنع ما ليس في (فلم) ، لأنّها تقلب المضارع إلى الماضي وتنفيه ، فلا يدلّ على أنّهم لم يضيّفوهم في الاستقبال ، بخلاف الإباء المقرون بأن ، فإنّه يدل على النفي مطلقا. وآية : (وَيَأْبَى اللهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ) [التوبة : ٣٢] أي حالا واستقبالا.
وعن الثالث : أنّه مبنيّ على أن مسمّى القرية ما ذا؟ أهو الجدران وأهلها معا حال كونهم فيها ، أم هي فقط؟ أم هم فقط؟ والظاهر عندي أنّه يطلق عليها مع قطع النظر إلى وجود أهلها وعدمهم ، بدليل قوله تعالى : (أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها) [البقرة : ٢٥٩]. سمّاها قرية ولا أهل ولا جدار قائما ، ولعدم تناول لفظ القرية إياهم في البيع إذا كانت القرية وأهلها ملكا للبائع ، وهم فيها حالة البيع. ولو كان الأهل داخلين في مسمّاها لدخلوا في البيع ؛ ولثبوت المغايرة بين المضاف والمضاف إليه. وإنّما ذكر الأهل لأنّه هو المقصود من سياق الكلام دون الجدران ، لأنّه بمعرض حكاية ما وقع منهم من اللّؤم.
فإن قلت : فما تصنع بقوله تعالى : (وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَها) [القصص : ٥٨] ، (وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا بَياتاً أَوْ هُمْ قائِلُونَ) [الأعراف : ٤] ، (وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً ...) [النحل : ١١٢] إلى آخره ، (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) [يوسف : ٨٢] ، فإنّ المراد في هذه الآيات وأمثالها الأهل.
قلت : هو من باب المجاز لأنّ الإهلاك إنّما ينسب إليهم دونها ، بدليل : (أَوْ هُمْ قائِلُونَ) [الأعراف : ٤] ، (فَأَذاقَهَا اللهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ) [النحل : ١١٢] ، و (بَطِرَتْ مَعِيشَتَها) [القصص : ٥٨] ولاستحالة السؤال من غير الأهل. على أنّا نقول : لو تصوّر وقوع الهلاك على نفس القرية بالخسف والحريق والغرق ونحوه لم تتعيّن الحقيقة لما ذكرناه والله أعلم.