وكل عالم فلا بدّ له من جهل وحيرة ، فأمّا الحلم المحصن الذي لا يلحقه طيش والجود المحصن الذي ليس فيه بخل والعلم المحصن الذي لا يقترن به جهل فإنها صفات خاصة به تعالى لا حظّ فيها لغيره ، وهذه الزيادة التي زيدت عليها في موضع نصب على الصفة ، كأنّه قيل : يا حليما غير عجول ، ويا جوادا غير بخيل ويا عالما غير جهول ، فالفائدة في هذه الألفاظ المزيدة على هذه الأسماء ما ذكرناه من التخصيص.
فإن قال قائل : فقد علمت أنّا إذا قلنا : يا حليم ويا جواد ويا عالم فقد فهم أنّ هذه الصفات مخالفة لصفات البشر ، فإذا كان ذلك مفهوما من أنفس هذه الصفات فما الفائدة في زيادة هذه الألفاظ عليها؟ فالجواب : أنّ الفائدة في ذلك أنّا إذا قلنا : يا حليم ويا جواد ويا عالم فإنّما يقع التباين والخلاف بالمعاني لا بالألفاظ ، وإذا قلنا : يا جوادا لا يبخل ويا حليما لا يعجل ويا عالما لا يجهل وقع التباين والخلاف بالمعاني والألفاظ معا ، وإذا انفصل الشيئان لفظا ومعنى كان أبلغ في التباين من أن ينفصلا معنى لا لفظا ، ويدلّك على أنّ الغرض في ذلك ما ذكرته قول عطاء الخراساني في «بسم الله الرحمن الرحيم» : «كان الباري تعالى يوصف بالرحمن ، فلمّا تسمّى به المخلوقون زيد عليه الرحيم» ، فهذا نصّ جليّ على أنّهم قصدوا تخصيصه تعالى بلفظ لا يوصف به سواه ، ولذلك قال المفسرون في «الله» : إنه اسم ممنوع ، فلأجل هذا قلنا : إن مثل هذا ينبغي أن يقال فيه : منادى مخصّص ، وإنما وجب أن ينتصب هذا النوع من المناديات وإن كان غير منكور لأنّ اللفظ الأوّل لمّا كان محتاجا إلى اللفظ الثاني لأنّه الذي يتمّ معناه ويخصّصه أشبه المنادى المضاف الذي لا يتمّ إلّا بالمضاف إليه فانتصب كانتصابه ، وصار بمنزلة قولك : يا خيرا من زيد ويا ضاربا رجلا ، ولذلك سمّى النحويون هذا النوع المنادى المشبّه بالمضاف.
وأمّا قولي : إن هذا سؤال من لم يتمهّر في معرفة اللسان العربي واعتراض من لم يتصوّر هذه الصناعة تصوّرا صحيحا فإنما قلت ذلك لأنّ هذا السؤال يدلّ على أنّ صاحبه يعتقد أنّ كلّ منادى معرفة غير مضاف مرفوع رفع بناء في كلام العرب ، وليس كذلك لأنّ المنادى في كلام العرب ينقسم إلى أربعة أقسام :
منادى منكور نحو : يا رجلا ، ومنادى مضاف نحو : يا عبد الله ، ومنادى مفرد وهو نوعان :
أحدهما : ما كان معرفة قبل النداء ، نحو : يا زيد.
والثاني : ما كان قبل النداء نكرة وتعرّف في النداء بإقبال المنادى عليه واختصاصه إيّاه بالنداء دون غيره ، نحو : يا رجل.