حذف الفاء قوله تعالى : (يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ) [آل عمران : ١٠٦] التقدير : فيقال لهم أكفرتم فحذفها هاهنا من أحسن الحذوف وأجراها في ميدان البلاغة.
والغالب على (أمّا) التكرير كقوله تعالى : (أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ) [الكهف : ٧٩] ، ثمّ قال : (وَأَمَّا الْغُلامُ فَكانَ أَبَواهُ مُؤْمِنَيْنِ) [الكهف : ٨٠] ، ثمّ قال : (وَأَمَّا الْجِدارُ فَكانَ لِغُلامَيْنِ) [الكهف : ٨٢] ، وقد جاءت غير مكرّرة في قوله : (يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ) [النساء : ١٧٤ ـ ١٧٥].
واعلم أنّ (أمّا) لمّا نزّلت منزلة الفعل نصبت ، ولكنّها لم تنصب المفعول به لضعفها ، وإنّما نصبت الظّرف الصحيح كقولك : «أمّا اليوم فإنّي منطلق» و «أمّا عندك فإنّي جالس» وتعلّق بها حرف الظّرف في نحو قولك : «أمّا في الدار فزيد نائم». وإنّما لم يجز أن يعمل ما بعد الظّرف في الظّرف ، لأنّ ما بعد (إنّ) لا يعمل فيما قبلها ، وعلى هذا يحمل قول أبي عليّ : «أمّا على أثر ذلك فإنّي جمعت» ، ومثله قولك : «أمّا في زيد فإني رغبت». ف (في) متعلّقة ب (أمّا) نفسها في قول سيبويه وجميع النحويّين إلّا أبا العبّاس المبرّد فإنّه زعم أنّ الجارّ متعلّق برغبت ، وهو قول مباين للصحّة ، خارق للإجماع ، لما ذكرته لك من أنّ (إنّ) تقطع ما بعدها عن العمل فيما قبلها فلذلك أجازوا : «زيدا جعفر ضارب» ولم يجيزوا «زيدا إنّ جعفرا ضارب» فإن قلت : «أمّا زيدا فإنّي ضارب» فهذه المسألة فاسدة في قول جميع النحويّين لما ذكرته لك من أنّ (أمّا) لا تنصب المفعول الصّريح ، وأنّ (إنّ) لا يعمل ما بعدها فيما قبلها ، وهو في مذهب أبي العبّاس جائز وفساده واضح.
المسألة الثانية (١) : أمّا مجيء الفاعل المضمر مفردا في قوله : (قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللهِ) [الأنعام : ٤٠ ، ٤٧] ، وكذلك في التثنية إذا قلت : (أرأيتكما) وفي خطاب جماعة النّساء إذا قلت : (أرأيتكنّ) ، فإنّما أفرد الضمير في هذا النحو لأنّه لو ثنّي وجمع فقيل (أرأيتماكما) و (أرأيتموكم) و (أرأيتنّكنّ) كان ذلك جمعا بين خطابين ، ولا يجوز الجمع بين خطابين ، كما لا يجوز الجمع بين استفهامين ، ألا ترى أنّك إذا قلت : (يا زيد) فقد أخرجته بالنّداء من الغيبة إلى الخطاب لوقوعه موقع الكاف من قولك : (أدعوك) و (أناديك) ، فلذلك قال الشاعر : [الكامل]
__________________
(١) انظر أمالي ابن الشجري (١ / ٢٩٢).