قولك في الجواب : إنه كلام تمجّه الأسماع وتنفر عنه الطباع إلى آخره ، فنقول بموجبه : لكن بالنسبة إلى من كانت حاسّته غير سليمة أو سدّ عن الإصاخة إلى الحقّ سمعه وأبى أن ينطق به لسانه ، وهذا قريب ممّا حكى الله سبحانه وتعالى عن الكفار المعاندين : (وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ) [فصلت : ٥] ، وقولك : «كم عرض على ذي طبع سليم وذهن مستقيم فلم يفهم معناه ولم يعلم مؤدّاه» نقول : هذا كلام متهافت ، إذ لو كانوا ذا طبع سليم وذهن مستقيم لفهموا معناه وتفطّنوا لموجبه ومقتضاه ، فإنّ ذا الطّبع السليم من يدرك اللّمحة وإن لطف شأنها ، ويتنبّه على الرّمزة وإن خفي مكانها ، ويكون مسترسل الطبيعة منقادها مشتعل القريحة وقّادها ، ولكنّهم كانوا مثلك كزّا جاسيا وغليظا جافيا غير داربين بأساليب النظم والنثر ، غير عالمين كيف يرتّب الكلام ويؤلّف وكيف ينظم ويرصف (أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ ، إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً) [الفرقان : ٤٤] أما سمعت قول بعض الفضلاء : [البسيط]
٥٨٩ ـ عليّ نحت القوافي من معادنها |
|
وما عليّ إذا لم تفهم البقر |
أو نقول : فرضنا أنّهم كما زعمت ذوو فهم سليم وطبع مستقيم ، لكنّهم ما اشتغلوا بالعلوم حقّ الاشتغال ، فأين هم من فهم هذا المقال؟ أما سمعت قول من قال : [الكامل]
٥٩٠ ـ لو كان هذا العلم يدرك بالمنى |
|
ما كان يبقى في البريّة جاهل |
وقول الآخر : [البسيط]
٥٩١ ـ لا تحسب المجد تمرا أنت آكله |
|
لن تبلغ المجد حتّى تلعق الصّبرا |
ومع أنّ هذه الغوامض كما نبّه عليه الزمخشري لا يكشف عنها من الخاصّة إلّا أوحدهم وأخصّهم وإلّا واسطتهم وفصلهم ، وعامّتهم عماة عن إدراك حقائقها بأحداقهم عناة في يد التقليد لا يمنّ عليهم بجزّ نواصيهم وإطلاقهم ، هذا مع أنّ مقامات الكلام متفاوتة ، فإنّ مقام الإيجاز يباين مقام الإطناب والمساواة ، وخطاب الذكيّ يباين خطاب الغبيّ ، فكما يجب على البليغ في موارد التفصيل والإشباع أن
__________________
٥٨٩ ـ الشاهد للبحتري في ديوانه (ص ٩٥٥) ، والموازنة بين أبي تمام والبحتري (١ / ٣٠٣) ، والدرر (٢ / ٢٢٢).
٥٩١ ـ البيت بلا نسبة في شرح ديوان الحماسة للمرزوقي (١٥١٢).