يفصّل ويشبع فكذلك الواجب عليه في خطاب الإجمال أن يجمل ويوجز ، أنشد الجاحظ : [الكامل]
٥٩٢ ـ يرمون بالخطب الطّوال وتارة |
|
وحي الملاحظ خيفة الرّقباء |
وأئمة صناعة البلاغة يرون سلوك هذا الأسلوب في أمثال هذه المقامات من كمال البلاغة وإصابة المحزّ ، فنقول : إنما أوجز الكلام وأوهم المرام اختبارا لتنبّهك أو مقدار تنبّهك ، أو نقول : عدل عن التصريح احترازا عن نسبة الخطأ إليك صريحا ، والعدول عن التصريح باب من البلاغة يصار إليه كثيرا وإن أورث تطويلا ، ومن الشواهد لما نحن فيه شهادة غير مردودة رواية صاحب المفتاح عن القاضي شريح (٢) «أنّ رجلا أقرّ عنده بشيء ثم رجع ينكر ، فقال له شريح : شهد عليك ابن أخت خالك ، آثر شريح التطويل ليعدل عن التصريح بنسبة الحماقة إلى المنكر ، لكون الإنكار بعد الإقرار إدخالا للعنق في ربقة الكذب لا محالة».
وأمّا قولك : «ثانيا : فسّره بما لا يدلّ عليه بمطابقة ولا بتضمّن ولا بالتزام» ثم تقول : «حاصله كذا» فنفيت أوّلا الدّلالات ، ثم أثبتّ ثانيا له معنى وذكرته ، فأنت كاذب إمّا في الأوّل أو الثاني ، وأيضا قد قلت : «أوّلا : إنه كهذيان المحموم ليس له مفهوم ، ثم قلت : حاصله كذا ، فقد أدخلت عنقك في ربقة الكذب ، اتّق الله فإنّ الكذب صغيرة والإصرار عليها كبيرة ، والمعاصي تجرّ إلى الكفر ، قال الله تعالى : (ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ) [الروم : ١٠] ، ثم إنّ قولك : «حاصله أنّ ثبوت أحد الأمرين هاهنا متحقّق ، وإنما التردّد في التعيين ، فحقيق أن يسأل عنه بالهمزة مع أم دون هل مع أو ، فإنّه سؤال عن أصل الثبوت» يوهم أنّك الذي استنبطت هذا المعنى من كلامه وفهمته منه ، وليس كذلك ، بل لمّا بلغك هذا الجواب بقيت حائرا مليّا لا تفهم مراده ولا تعرف معناه ، وكنت تعرّضته على من زعمت أنّهم كانوا ذا طبع سليم وفهم مستقيم ، فما فهموا معناه وما عثروا على مؤدّاه ، فصرت ضحكة للضاحكين وسخرة للساخرين ، فلمّا حال الحول وانتشر القول جاء ذاك الألمعيّ أعني الشيخ أمين الدين حاجي ددا وتمثّل بين يدي والدي وقال كما قلت : [المتقارب]
__________________
٥٩٢ ـ الشاهد لأبي دؤاد بن حريز الإيادي في البيان والتبيين (١ / ١٥٥) ، ولأبي داود بن جرير في زهر الآداب (١ / ٩٦) ، وبلا نسبة في الصناعتين (ص ١٩٨).
(١) انظر مفتاح العلوم (ص ٩٧).