النّون جعلهما كالضّبّ والنّون ، فزال هذا الوهم اللّفظيّ العاري من المعنى بمجرّد المبنى والمبنى والذي يقضى منه العجب أنّ المخطئ في الظاهر كيف يعدّ من محقّقي الأدب.
وأمّا حلّ مبناه وبيان معناه فالظّاهر من المقصود ما يقول العبد وهو محمود ، أنّ «ثانيه» خبر ثان لصار ولكن جعل من قبيل «أعط القوس باريها» (١) في ترك النّصب ، إذ هو خبر لمبتدأ محذوف ، و «لم يكن» بمعنى «لم يصر» لقربه من سياق «أن صار» ، و «ثان» اسمه وتنوينه عوض عن الضمير المضاف إليه و «كاثنين» خبره وفيه مضاف محذوف ، والمآل : ولم يصر ثانيه كثاني اثنين إذ هما في الغار ، لأنّهما تجاورا في العلوّ لا في الغور ، والغرض أن يصف مصلوبه بالارتفاع لكن في الصّلب ، وهو من التّهكّم المليح.
الكلام في قوله تعالى : (وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْراً)
ومن الفوائد عن الشيخ بدر الدين بن مالك نقلت من خطّ الشيخ كمال الدين الشمنّي والد شيخنا :
سئل الشّيخ بدر الدين ابن العلّامة جمال الدّين بن مالك رحمهم الله تعالى عن قوله تعالى : (وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْراً) [الأنفال : ٢٣] الآية ، والبحث عن تركيبها.
فأجاب : هذه الآية على صورة الضّرب الأول من الشّكل الأول من القياس المؤلّف من متّصلتين ، لأنّها مشتملة على قضيّتين متّصلتين موجبتين كلّيتين ، وبينهما حدّ أوسط هو تال في الصّغرى ، مقدّم في الكبرى ، وذلك يستلزم قضية أخرى متّصلة ، مركبة من مقدّم الصّغرى وتالي الكبرى ، وهو : (ولو علم الله فيهم خيرا لتولوا وهم معرضون ،) وكيف يكون علم الله فيهم خيرا وقبولا للحقّ ملزوما لتولّيهم وعدم قبولهم له ، هذا الإشكال ، قال : وعندي عنه ثلاثة أجوبة :
أحدها : لا نسلّم أنّ نظم الآية الكريمة يستلزم المتّصلة المذكورة ، لأنّ من شرط الإنتاج اتحاد الأوسط ، ولا نسلّم أنّ الأوسط متّحد بناء على أحد التفسيرين لقوله تعالى : (وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ) فإنّ قوله تعالى : (وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ) معناه : لو علم الله فيهم خيرا وقبولا للحقّ لأسمعهموه ولو أسمعهم ذلك الإسماع لتولّوا ، ولم يؤمنوا مبالغة في بعدهم عن الإقبال على الإيمان والدخول فيه. وقيل معناه : لو أسمعهم فآمنوا لتولّوا بعد ذلك وارتدّوا. فعلى هذا
__________________
(١) انظر شرح المفصل (١٠ / ١٠٣) ، وفصل المقال (ص ٢٩٨).