وليس في الأوجه التي يحتملها هذا الكلام أن يكون المراد بالاستفهام طلب تعيين المسند إليه ، وذلك بأن يكون المتكلّم عالما بوقوع الفعل ، ولكن جهل عين الفاعل ؛ فإنّه لو أريد ذلك لم يول أداة الاستفهام ما هو عالم بحصوله وهو الفعل ، ويؤخّر عنها ما هو شاكّ فيه وهو الفاعل. وإنّما كان سبيله أن يعكس الأمر فيقول : «أزيد خرج». وعلى هذا فإذا قيل : «أزيد خرج» احتمل الكلام ما احتمله ذلك المثال ، واحتمل مع ذلك وجها آخر وهو السؤال عن المسند إليه. وتكون الجملة على هذا التقدير الأخير اسمية لا فعلية ، وعلى تقدير أنّ السؤال عن المسند فعلية لا اسمية ، وارتفاع الاسم حينئذ بفعل محذوف على شريطة التفسير ، وعلى تقدير أنّه عن النّسبة محتملة للاسميّة والفعليّة ، والأرجح الفعليّة ؛ لأنّ طلب الهمزة للفعل أقوى فهي به أولى. والنحويّون يجزمون برجحان الفعلية في هذا المثال ونحوه مطلقا ، بناء على ما ذكرنا من أولويّة الهمزة بالجمل الفعلية.
والتحرير ما ذكرنا ، فمتى قامت قرينة ناصّة على أنّ السؤال عن المسند إليه تعيّنت الاسميّة ، أو عن المسند تعيّنت الفعليّة ، وإلّا فالأمر على الاحتمال وترجيح الفعلية كما ذكروا. وأمّا أسماء الاستفهام فكلّها مضمّنة معنى الهمزة التي يطلب بها التصوّر. والنحويون يقولون : «معنى الهمزة» ، ويطلقون ، وهو صحيح إلّا أنّ فيه إجمالا ونقصا في التّعليم ؛ وإنّما لم يوضّحوا ذلك لأنّ الكلام في هذه الأغراض ليس من مقاصدهم.
الفصل الثالث : في الفرق بين قسمي (أم):
تفترق «أم» المتّصلة ، وتسمّى المعادلة أيضا ، و «أم» المنقطعة ، وتسمى المنفصلة أيضا ، من كلّ واحدة من جهتي اللفظ والمعنى من أربعة أوجه :
فأما الأوجه اللفظية : فأحدها : باعتبار ما قبلهما ، وذلك أنّ ما قبل المتّصلة لا يكون إلّا استفهاما لفظا ومعنى ، أو استفهاما لفظا لا معنى. فالأول نحو : «أزيد قائم أم عمرو» ، والثاني نحو : «سواء عليّ أقمت أم قعدت» ، فإنّ الهمزة هنا قد خلع منها معنى الاستفهام ، ولهذا يصحّ في مكانها ومكان ما دخلت عليه المصدر فيقال : «سواء عليّ قيامك وقعودك» ويصحّ تصديق الكلام الذي هي فيه وتكذيبه ، ولا يستحقّ المتكلّم به جوابا ؛ واستعملت في لازم الاستفهام ، وهو التّسوية ألا ترى أنّ الطالب لفهم الشيء استوى عنده وجوده وعدمه ، أعني استواءهما في أصل الاحتمال ، وإن كان أحدهما قد يكون راجحا. وهذا المعنى أشار إليه سيبويه رحمه الله بقوله : «وإنّما جاز الاستفهام هنا لأنّك سويت الأمرين عندك كما استوى ذلك