باب فى مراجعة الأصل الأقرب دون الأبعد
هذا موضع قلّما وقع تفصيله. وهو معنى يجب أن ينبّه عليه ، ويحرّر القول فيه.
من ذلك قولهم فى ضمة الذال من قولك : ما رأيته مذ اليوم ؛ لأنهم يقولون فى ذلك : إنهم لمّا حرّكوها لالتقاء الساكنين لم يكسروها ، لكنهم ضمّوها ؛ لأن أصلها الضمّ فى منذ. (وهو) هكذا لعمرى ؛ لكنه الأصل الأقرب ؛ ألا ترى أن أوّل حال هذه الذال أن تكون ساكنة ، وأنها إنما ضمّت لالتقاء الساكنين إتباعا لضمة الميم. فهذا على الحقيقة هو الأصل الأوّل. فأمّا ضمّ ذال منذ فإنما هو فى الرتبة بعد سكونها الأوّل المقدّر. ويدلّك على أن حركتها إنما هى لالتقاء الساكنين أنه لمّا زال التقاؤهما سكنت الذال فى مذ. وهذا واضح. فضمّتك الذال إذا من قولهم : مذ اليوم ومذ الليلة إنما هو ردّ إلى الأصل الأقرب الذى هو (منذ) دون الأبعد المقدّر الذى هو سكون الذال فى (منذ) قبل أن يحرّك فيما بعده.
ولا يستنكر الاعتداد بما لم يخرج إلى اللفظ ؛ لأن الدليل إذا قام على شيء كان فى حكم الملفوظ به وإن لم يجر على ألسنتهم استعماله ؛ ألا ترى إلى قول سيبويه فى سودد (١) : إنه إنما ظهر تضعيفه لأنه ملحق بما لم يجيء. هذا وقد علمنا أن الإلحاق إنما هو صناعة لفظيّة ، ومع هذا فلم يظهر ذاك الذى قدّره ملحقا هذا به.
فلو لا أن ما يقوم الدليل عليه ممّا لم يظهر إلى النطق به بمنزلة الملفوظ به لما ألحقوا سرددا (وسوددا) بما لم يفوهوا به ، ولا تجشّموا استعماله.
ومن ذلك قولهم بعت ، وقلت ؛ فهذه معاملة على الأصل الأقرب دون الأبعد ؛ ألا ترى أن أصلهما فعل بفتح العين : بيع وقول ، ثم نقلا من فعل إلى فعل وفعل ، ثم قلبت الواو والياء فى فعلت ألفا ، فالتقى ساكنان : العين المعتلّة المقلوبة
__________________
(١) وابن جنى يريد أن سوددا ـ بفتح الدال الأولى ـ ملحق ؛ إذا لو لا هذا لجرى فيه الإدغام. وسيبويه فى الكتاب ٢ / ٤٠١ يجعل قعددا ـ ومثله سودد ـ ملحقا بجندب وعنصل ، وهما مزيدان.