أراد : فقد بيّن لى صرد يصيح بوشك فراقهم ، والشكّ عناء. ففيه من الفصول ما أذكره. وهو الفصل بين (قد) والفعل الذى هو بيّن. (وهذا) قبيح لقوّة اتصال (قد) بما تدخل عليه من الأفعال ؛ ألا تراها تعتدّ مع الفعل كالجزء منه. ولذلك دخلت اللام المراد بها توكيد الفعل على (قد) فى نحو قول الله تعالى : (وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ) [الزمر : ٦٥] ، وقوله سبحانه : (وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ) [البقرة : ١٠٢] وقوله :
ولقد أجمع رجلىّ بها |
|
حذر الموت وإنى لفرور |
وفصل بين المبتدأ الذى هو الشكّ وبين الخبر الذى هو عناء بقوله : (بيّن لى) ، وفصل بين الفعل الذى هو (بيّن) وبين فاعله الذى هو (صرد) بخبر المبتدأ الذى هو (عناء) ، وقدّم قوله : (بوشك فراقهم) وهو معمول (يصيح) ويصيح صفة لصرد على صرد ، وتقديم الصفة أو ما يتعلّق بها على موصوفها قبيح ؛ ألا ترى أنك لا تجيز هذا اليوم رجل ورد من موضع كذا ؛ لأنك تريد : هذا رجل ورد اليوم من موضع كذا. وإنما يجوز وقوع المعمول فيه بحيث يجوز وقوع العامل ، فكما لا يجوز تقديم الصفة على موصوفها ، كذلك لا يجوز تقديم ما اتّصل بها على موصوفها ، كما لا يجوز تقديم معمول المضاف إليه على نفس المضاف ، لمّا لم يجز تقديم المضاف إليه عليه. ولذلك لم يجز قولك : القتال زيدا حين تأتى ، وأنت تريد : القتال حين تأتى زيدا.
فمتى رأيت الشاعر قد ارتكب مثل هذه الضرورات على قبحها ، وانخراق الأصول بها ، فاعلم أن ذلك على ما جشمه منه وإن دلّ من وجه على جوره وتعسّفه ، فإنه من وجه آخر مؤذن بصياله وتخمطه (١) ، وليس بقاطع دليل على ضعف لغته ، ولا قصوره عن اختياره الوجه الناطق بفصاحته. بل مثله فى ذلك عندى مثل مجرى الجموح بلا لجام ، ووارد الحرب الضروس حاسرا من غير احتشام ، فهو وإن كان ملوما فى عنفه وتهالكه ، فإنه مشهود له بشجاعته وفيض منته ؛ ألا تراه لا يجهل أن لو تكفر فى سلاحه ، أو أعصم بلجام جواده ، لكان
__________________
(١) يقال : تخمط الفحل : هدر وثار. وتخمط : تكبر.