وبعد فإذا عرف التوكيد لم وقع فى الكلام ـ نحو نفسه وعينه وأجمع ، وكله وكلهم وكليهما وما أشبه ذلك ـ عرفت منه (حال سعة) المجاز فى هذا الكلام ؛ ألا تراك قد تقول : قطع الأمير اللصّ ويكون القطع له بأمره لا بيده ، فإذا قلت : قطع الأمير نفسه اللصّ رفعت المجاز من جهة الفعل وصرت إلى الحقيقة ؛ لكن يبقى عليك التجوّز من مكان آخر وهو قولك : اللصّ وإنما لعلّه قطع يده أو رجله ؛ فإذا احتطت قلت : قطع الأمير نفسه يد اللصّ أو رجله. وكذلك جاء الجيش أجمع ، ولو لا أنه قد كان يمكن أن يكون إنما جاء بعضه ـ وإن أطلقت المجيء على جميعه ـ لما كان لقولك : أجمع معنى.
فوقوع التوكيد فى هذه اللغة أقوى دليل على شياع المجاز فيها واشتماله عليها ؛ حتى إن أهل العربية أفردوا له بابا لعنايتهم به ، وكونه ممّا لا يضاع ولا يهمل مثله ؛ كما أفردوا لكل معنى أهمّهم بابا ؛ كالصفة والعطف والإضافة والنداء والندبة والقسم والجزاء ونحو ذلك.
وبينت منذ قريب لبعض منتحلى هذه الصناعة هذا الموضع ـ أعنى ما فى ضربت زيدا ، وخلق الله ونحو ذلك ـ فلم يفهمه إلا بعد أن بات عليه وراض نفسه فيه واطّلع فى الموضع الذى أومأت له إليه ، فحينئذ ما تصوّره ، وجرى على مذهبه فى أن لم يشكره.
واعلم أن جميع ما أوردناه فى سعة المجاز عندهم واستمراره على ألسنتهم يدفع دفع أبى الحسن القياس على حذف المضاف وإن لم يكن حقيقة. (أولا) يعلم أبو الحسن كثرة المجاز غيره ، وسعة استعماله وانتشار مواقعه ؛ كقام أخوك وجاء الجيش وضربت زيدا ونحو ذلك ، وكل ذلك مجاز (لا حقيقة) (وهو على غاية الانقياد والاطراد. وكذلك أيضا حذف المضاف مجاز لا حقيقة) وهو مع ذلك مستعمل.
فإن احتجّ أبو الحسن بكثرة هذه المواضع ؛ نحو قام زيد وانطلق محمد وجاء القوم ونحو ذلك ، قيل له : وكذلك حذف المضاف قد كثر ؛ حتى إن فى القرآن ـ وهو أفصح الكلام ـ منه أكثر من مائة موضع ، بل ثلاثمائة موضع ، وفى الشعر منه ما لا أحصيه.