الذى أنت مدّع شياعه وانتشاره.
قيل : إنما أحال ذلك على أن المتكلم يريد به الحقيقة ، وهذا مستقيم ؛ إذ الإنسان الواحد لا يشرب جميع ماء البحر. فأمّا إن أراد به بعضه ثم أطلق هناك اللفظ يريد به جميعه فلا محالة من جوازه ؛ ألا ترى إلى (قول الأسود بن يعفر)
نزلوا بأنقرة يسيل عليهم |
|
ماء الفرات يجيء من أطواد (١) |
(فلم يحصل) هنا جميعه ؛ لأنه قد يمكن أن يكون بعض مائه مختلجا قبل وصوله إلى أرضهم (بشرب أو بسقى) زرع ونحوه. فسيبويه إذا إنما وضع هذه اللفظة فى هذا الموضع على أصل (وضعها فى اللغة) من العموم ، واجتنب المستعمل فيه من الخصوص.
ومثل توكيد المجاز فيما مضى قولنا : قام زيد قياما ، وجلس عمرو جلوسا ، وذهب سعيد ذهابا ، (ونحو ذلك ؛ لأن) قولنا : قام زيد ونحو ذلك قد قدّمنا الدليل على أنه مجاز. وهو مع ذلك مؤكّد بالمصدر. فهذا توكيد المجاز كما ترى.
وكذلك أيضا يكون قوله سبحانه : (وَكَلَّمَ اللهُ مُوسى تَكْلِيماً) [النساء : ١٦٤] من هذا الوجه مجازا على ما مضى.
ومن التوكيد فى المجاز قوله تعالى : (وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) [النمل : ٢٣] ولم تؤت لحية ولا ذكرا. ووجه هذا عندى أن يكون ممّا حذفت صفته ، حتى كأنه قال : وأوتيت من كل شيء تؤتاه المرأة الملكة ؛ ألا ترى (أنها لو) أوتيت لحية وذكرا لم تكن امرأة أصلا ، ولما قيل فيها : أوتيت ، ولقيل أوتى. ومثله قوله تعالى : (اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) [الزمر : ٦٢] وهو سبحانه شيء. (وهذا) مما يستثنيه العقل ببديهته ، ولا يحوج إلى التشاغل باستثنائه ؛ ألا ترى أن الشىء كائنا ما كان لا يخلق نفسه ، كما أن المرأة لا تؤتى لحية ولا ذكرا.
فأما قوله سبحانه : (وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ) [يوسف : ٧٦] فحقيقة لا مجاز.
__________________
(١) البيت من الكامل ، وهو للأسود بن يعفر فى ديوانه ص ٢٧ ، ولسان العرب (نقر) ، وتاج العروس (نقر) ، وشرح اختيارات المفضل ص ٩٧٠ ، والحماسة البصرية ٢ / ٤١٢. الأطواد : الجبال.