باب فى التجريد
اعلم أن هذا فصل من فصول العربية طريف حسن. ورأيت أبا على ـ رحمهالله ـ به غريا معنيّا ، ولم (يفرد له) بابا ، لكنه وسمه فى بعض ألفاظه بهذه السمة ، فاستقريتها منه وأنقت لها. ومعناه أن (العرب قد تعتقد) أن فى الشىء من نفسه معنى آخر ، كأنه حقيقته ومحصوله. وقد يجرى ذلك إلى ألفاظها لما عقدت عليه معانيها. وذلك نحو قولهم : لئن لقيت زيدا لتلقينّ منه الأسد ، ولئن سألته لتسئلن منه البحر. فظاهر هذا أن فيه من نفسه أسدا وبحرا ، وهو عينه هو الأسد والبحر (لا أن) هناك شيئا منفصلا عنه وممتازا منه.
وعلى هذا يخاطب الإنسان منهم نفسه ، حتى كأنها تقابله أو تخاطبه.
ومنه قول الأعشى :
*وهل تطيق وداعا أيها الرجل (١) *
وهو الرجل نفسه لا غيره. وعليه قراءة من قرأ (قالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)(٢) [البقرة : ٢٥٩] أى اعلم أيها الإنسان ، وهو نفسه الإنسان ؛ وقال تعالى : (لَهُمْ فِيها دارُ الْخُلْدِ) [فصلت : ٢٨] وهى نفسها (دار الخلد).
وقال الأعشى :
لات هنّا ذكرى جبيرة أم من |
|
جاء منها بطائف الأهوال (٣) |
__________________
(١) عجز بيت من البسيط ، وهو للأعشى فى ديوانه ص ١٠٥ ، ولسان العرب (جهنم) ، ومقاييس اللغة ٤ / ١٢٦ ، وتاج العروس (ودع). وصدره :
*ودع هريرة إن الركب مرتحل*
(٢) وهى قراءة حمزة والكسائى. السبعة لابن مجاهد ص ١٨٩.
(٣) البيت من الخفيف ، وهو للأعشى فى ديوانه ص ٥٣ ، وخزانة الأدب ٤ / ١٩٦ ، ١٩٨ ، والدرر ٢ / ١١٨ ، وشرح التصريح ١ / ٢٠٠ ، وشرح المفصل ٣ / ١٧ ، ولسان العرب (هنا) ، (هنأ) ، والمحتسب ٢ / ٣٩ ، والمقاصد النحوية ٢ / ١٠٦ ، ٤ / ١٩٨ ، وبلا نسبة فى الإنصاف ١ / ٢٨٩ ، ورصف المبانى ص ١٧٠ ، والمقرب ١ / ١٢٦.