باب فى تدافع الظاهر
هذا نحو من اللغة له انقسام.
فمن ذلك استحسانهم لتركيب ما تباعدت مخارجه من الحروف ؛ نحو الهمزة مع النون ، والحاء مع الباء ؛ نحو آن ونأى ، وحبّ وبحّ ، واستقباحهم لتركيب ما تقارب من الحروف ؛ وذلك نحو صس وسص ، وطث وثط. ثم إنا من بعد نراهم يؤثرون فى الحرفين المتباعدين أن يقرّبوا أحدهما من صاحبه ويدنوه إليه ؛ وذلك نحو قولهم فى سويق : صويق ، وفى مساليخ : مصاليخ ، وفى السوق : الصوق ، وفى اصتبر : اصطبر ، وفى ازتان : ازدان ، ونحو ذلك مما أدنى فيه الصوتان أحدهما من الآخر ، مع ما قدّمناه : من إيثارهم لتباعد الأصوات ؛ إذ كان الصوت مع نقيضه أظهر منه مع قرينه ولصيقه ؛ ولذلك كانت الكتابة بالسواد فى السواد خفيّة ، وكذلك سائر الألوان.
والجواب عن ذلك أنهم قد علموا أن ادّغام الحرف فى الحرف أخفّ عليهم من إظهار الحرفين ؛ ألا ترى أن اللسان ينبو عنهما معا نبوة واحدة ، نحو قولك : شدّ وقطّع وسلّم ؛ ولذلك ما حقّقت الهمزتان إذا كانتا عينين ؛ نحو سآل ورءاس ، ولم تصحّا فى الكلمة الواحدة غير عينين ؛ ألا ترى إلى قولهم : آمن وآدم ، وجاء ، وشاء ، ونحو ذلك. فلأجل هذا ما قال يونس فى الإضافة إلى مثنّى : مثنّوىّ.
فأجرى المدغم مجرى الحرف الواحد ، نحو نون مثنى إذا قلت : مثنوىّ ؛ قال الشاعر :
*حلفت يمينا غير ذى مثنويّة (١) *
ولأجل ذلك كان من قال : (هم قالوا) فاستخف بحذف الواو ، ولم يقل فى
__________________
(١) صدر البيت من الطويل ، وهو للنابغة الذبيانى فى ديوانه ص ٤١ ، وخزانة الأدب ٣ / ٣٢٣ ، ٣٣٠ ، ٦ / ٢٨٩ ، وشرح أبيات سيبويه ٢ / ٥١ ، والكتاب ٢ / ٣٢٢ ، واللمع فى العربية ص ١٥١. وعجز البيت :
* ولا علم إلا حسن ظنّ بصاحب*