ترى أن كل واحد من هذه الأفعال وغيرها يحتاج إلى الفاعل حاجة واحدة ، وهو استقلاله به ، وانتسابه إليه ، وحدوثه عنه ، أو كونه بمنزلة الحادث عنه ، على ما هو مبيّن فى باب الفاعل. وكان أبو علىّ يقوّى قول أبى الحسن فى نحو قولهم : إنى لأمرّ بالرجل مثلك : إن اللام زائدة ، حتى كأنه قال : إنى لأمرّ برجل مثلك ، لمّا لم يكن الرجل هنا مقصودا معيّنا ، على قول الخليل : إنه تراد اللام فى المثل ، حتى كأنه قال : إنى لأمرّ بالرجل المثل لك ، أو نحو ذلك ؛ قال : لأن الدلالة اللفظية أقوى من الدلالة المعنوى ، أى أن اللام (فى قول أبى الحسن) ملفوظ بها ، وهى فى قول الخليل مرادة مقدّرة.
واعلم أنّ هذا القول من أبى علىّ غير مرضىّ عندى ؛ لما أذكره لك. وذلك أنه جعل لفظ اللام دلالة على زيادتها ، وهذا محال ، وكيف يكون لفظ الشىء دلالة على زيادته ، وإنما جعلت الألفاظ أدلّة على إثبات معانيها ، لا على سلبها ، وإنما الذى يدلّ على زيادة اللام هو كونه مبهما لا مخصوصا ؛ ألا ترى أنك لا تفصل بين معنيى قولك : إنى لأمر برجل مثلك ، وإنى لأمرّ بالرجل مثلك ، فى كون كلّ واحد منهما منكورا غير معروف ، ولا مومأ به إلى شيء بعينه ؛ فالدلالة أيضا من هذا الوجه (كما ترى) معنويّة ؛ كما أن إرادة الخليل اللام فى (مثلك) إنما دعا إليها جريه صفة على شيء هو فى اللفظ معرفة ، فالدلالتان إذا كلتاهما معنويتان.
ومن ذلك قولهم للسلّم : مرقاة ، وللدرجة مرقاة ، فنفس اللفظ يدلّ على الحدث الذى هو الرقىّ ، وكسر الميم يدل على أنها مما ينقل ويعتمل عليه (وبه) كالمطرقة والمئزر والمنجل ، وفتحة ميم مرقاة تدلّ على أنه مستقرّ فى موضعه ، كالمنارة والمثابة. ولو كانت المنارة ممّا يجوز كسر ميمها لوجب تصحيح عينها ، وأن تقول فيها : منورة (لأنه كانت) تكون حينئذ منقوصة ، من مثال مفعال ؛ كمروحة ومسورة (١) ومعول ومجول (٢) ، فنفس (ر ق ى) يفيد معنى الارتقاء ، و (كسرة الميم وفتحتها تدلان) على ما قدّمناه : من معنى الثبات أو الانتقال. وكذلك الضرب والقتل : نفس اللفظ يفيد الحدث فيهما ، ونفس الصيغة تفيد فيهما صلاحهما
__________________
(١) المسور والمسورة : متكأ من أدم ، وجمعها المساور.
(٢) المجول : ثوب صغير تجول فيه الجارية.