وأما تجاور الأحوال (فهو غريب). وذلك أنهم لتجاوز الأزمنة ما يعمل فى بعضها ظرفا ما لم يقع فيه من الفعل ، وإنما وقع فيما يليه ؛ نحو قولهم : أحسنت إليه إذ أطاعنى ، وأنت لم تحسن إليه فى أوّل وقت الطاعة ، وإنما أحسنت إليه فى ثانى ذلك ؛ ألا ترى أن الإحسان مسبّب عن الطاعة ، وهى كالعلّة له ، ولا بدّ من تقدّم وقت السبب على وقت المسبّب ؛ كما لا بدّ من ذلك مع العلّة. لكنه لمّا تقارب الزمانان ، وتجاورت الحالان ، فى الطاعة والإحسان ، أو الطاعة واستحقاق الإحسان ، صارا كأنهما إنما وقعا فى زمان واحد. ودليل ذلك أن (لمّا) من قولك : لمّا أطاعنى أحسنت إليه ، إنما هى منصوبة بالإحسان ، وظرف له ؛ كقولك : أحسنت إليه وقت طاعته ، وأنت لم تحسن إليه لأوّل وقت الطاعة ، وإنما كان الإحسان فى ثانى ذلك أو ما يليه ، ومن شرط الفعل إذا نصب ظرفا أن يكون واقعا فيه أو فى بعضه ؛ كقولك : صمت يوما ، وسرت فرسخا ، وزرتك يوم الجمع ، وجلست عندك. فكل واحد من هذه الأفعال واقع فى الظرف الذى نصبه ، لا محالة ، ونحن نعلم أنه لم يحسن إليه إلا بعد أن أطاعه ؛ لكن لمّا كان الثانى مسببا عن الأوّل وتاليا له ، فاقتربت الحالان ، وتجاور الزمانان ، صار الإحسان كأنه إنما هو والطاعة فى زمان واحد ، فعمل الإحسان فى الزمان الذى يجاور وقته ؛ كما يعمل فى الزمان الواقع فيه هو نفسه. فاعرفه.
ومثله : لمّا شكرنى زرته ، ولمّا استكفانى كفيته ، وزرته إذ استزارنى ، وأثنيت عليه حين أعطانى ، وإذا أتيته رحب بى ، وكلما استنصرته نصرنى (أى كلّ وقت أستنصره فيه ينصرنى) ، وإنما ينصرك فيما بعد زمان الاستنصار. ويؤكّد عندك حال إتباع الثانى للأوّل وأنه ليس معه فى وقته ، دخول الفاء فى هذا النحو من الكلام ؛ كقولك : إذا سألته فإنه يعطينى ، وإذا لقيته فإنه يبشّ بى. فدخول الفاء هنا أوّل دليل على التعقيب ، وأن الفعلين لم يقعا معا فى زمان واحد. وقد ذكرنا هذا ليزداد القول به وضوحا ، وإن كان ما مضى كافيا.
ولمّا اطّرد هذا فى كلامهم ، وكثر على ألسنتهم وفى استعمالهم ، تجاوزوه واتّسعوا فيه إلى ما تناءت حالاه ، وتفاوت زماناه. وذلك كأن يقول رجل بمصر فى رجل آخر بخراسان : لمّا ساءت حاله حسّنتها ، ولمّا اختلّت معيشته عمرتها. ولعله