باب فى الامتناع من نقض الغرض
اعلم أن هذا المعنى الذى تحامته العرب ـ أعنى امتناعها من نقض أغراضها ـ يشبه البداء (١) الذى تروم اليهود إلزامنا إياه فى نسخ الشرائع وامتناعهم منه ؛ إلا أنّ الذى رامته العرب من ذلك صحيح على السبر ، والذى ذهبوا هم إليه فاسد غير مستقيم. وذلك أن نسخ الشرائع ليس ببداء عندنا ؛ لأنه ليس نهيا عمّا أمر الله تعالى به ، وإنما هو نهى عن مثل ما أمر الله تعالى به فى وقت آخر غير الوقت الذى كان ـ سبحانه ـ أمر بالأوّل فيه ؛ ألا ترى أنه ـ عزّ اسمه ـ لو قال لهم : صوموا يوم كذا ، ثم نهاهم عن الصوم فيه فيما بعد ، لكان إنما نهاهم عن مثل ذلك الصوم ، لا عنه نفسه. فهذا ليس بداء. لكنه لو قال : صوموا يوم الجمعة ، ثم قال لهم قبل مضيّه : لا (تصوموه) لكان ـ لعمرى ـ بداء وتنقّلا ، والله ـ سبحانه ـ يجلّ عن هذا ؛ لأن فيه انتكاثا ، وتراجعا ، واستدراكا ، وتتبعا. فكذلك امتناع العرب من نقض أغراضها ، هو فى الفساد مثل ما نزّهنا القديم ـ سبحانه ـ عنه من البداء.
فمن ذلك امتناعهم من ادّغام الملحق ؛ نحو جلبب ، وشملل ، وشربب (ورمدد ومهدد) (٢) وذلك أنك إنما أردت بالزيادة والتكثير البلوغ إلى مثال معلوم ، فلو ادّغمت فى نحو شربب فقلت : شربّ ، لانتقض غرضك الذى اعتزمته : من مقابلة الساكن بالساكن ، والمتحرّك بالمتحرّك ، فأدّى ذلك إلى ضدّ ما اعتزمته ، ونقض ما رمته. فاحتمل التقاء المثلين متحرّكين ؛ لما ذكرنا من حراسة هذا الموضع ، وحفظه.
ومن ذلك امتناعهم من تعريف الفعل. وذلك أنه إنما الغرض فيه إفادته ، فلا بدّ من أن يكون منكورا لا يسوغ تعريفه ؛ لأنه لو كان معرفة لما كان مستفادا ؛ لأن المعروف قد غنى بتعريفه عن اجتلابه ليفاد من جملة الكلام. ولذلك قال
__________________
(١) البداء : استصواب شيء علم بعد أن لم يعلم ، وذلك على الله غير جائز. اللسان (بدا).
(٢) شملل : أسرع. شربب : موضع. ويقال : رماد رمدد : كثير دقيق جدا. ومهدد : اسم امرأة.