قيل : هبه لا يعرف التصريف (أتراه لا) يحسن بطبعه وقوّة نفسه ولطف حسّه هذا القدر! هذا ما لا يجب أن يعتقده عارف بهم ، أو آلف لمذاهبهم ؛ لأنه وإن لم يعلم حقيقة تصريفه بالصنعة فإنه يجده بالقوّة ؛ ألا ترى أن أعرابيّا بايع أن يشرب علبة لبن ولا يتنحنح ، فلمّا شرب بعضها كظّه الأمر فقال : كبش أملح. فقيل له : ما هذا! تنحنحت. فقال : من تنحنح ، فلا أفلح. ألا تراه كيف استعان لنفسه ببحّة الحاء ، واستروح إلى مسكة النفس بها ، وعللها بالصويت اللاحق (لها فى الوقف) ونحن مع هذا نعلم أن هذا الأعرابىّ لا يعلم أن فى الكلام شيئا يقال له حاء ، فضلا عن أن يعلم أنها من الحروف المهموسة ، وأن الصوت يلحقها فى حال سكونها والوقف عليها ، ما لا يلحقها فى حال حركتها أو إدراجها فى حال سكونها ، فى نحو بحر ، ودحر (١) ؛ إلا أنه وإن لم يحسن شيئا من هذه الأوصاف صنعة ولا علما ، فإنه يجدها طبعا ووهما. فكذلك الآخر : لمّا سمع ملكا وطال ذلك عليه أحسّ من ملك فى اللفظ ما يحسّه من حلك. فكما أنه يقال : أسود حالك قال هنا من لفظة ملك : مالك ، وإن لم يدر أن مثال ملك فعل أو مفل ، ولا أن مالكا هنا فاعل أو مافل. ولو بنى من ملك على حقيقة الصنعة فاعل لقيل : لائك ؛ كبائك ، وحائك.
وإنما مكّنت القول فى هذا الموضع ليقوى فى نفسك قوّة حسّ هؤلاء القوم ، وأنهم قد يلاحظون بالمنّة والطباع ، ما لا نلاحظه نحن عن طول المباحثة والسماع.
فتأمّله ؛ فإن الحاجة إلى مثله ظاهرة.
ومن ذلك همزهم مصائب. وهو غلط منهم. وذلك أنّهم شبهوا مصيبة بصحيفة (فكما همزوا صحائف همزوا أيضا مصائب ، وليست ياء مصيبة زائدة كياء صحيفة) ؛ لأنها عين ، ومنقلبة عن واو ، هى العين الأصلية. وأصلها مصوبة ؛ لأنها اسم الفاعل من أصاب ؛ كما أن أصل مقيمة مقومة ، وأصل مريدة مرودة ، فنقلت الكسرة من العين إلى الفاء ، فانقلبت الواو ياء ، على ما ترى. وجمعها القياسىّ مصاوب. وقد جاء ذلك ؛ قال :
__________________
(١) الدحر : الطرد والإبعاد.