كثيرا ما يهجّن بعضهم بعضا ، (ولا) يترك له فى ذلك سماء ولا أرضا.
قيل له : هذا أوّل دليل على كرم هذا الأمر ، ونزاهة هذا العلم ؛ ألا ترى أنه إذا سبقت إلى أحدهم ظنّة ، أو توجّهت نحوه شبهة ، سبّ بها ، وبرئ إلى الله منه لمكانها. ولعل أكثر من يرمى بسقطة فى رواية ، أو عمر فى حكاية ، محمىّ جانب الصدق فيها ، برئ عند الله ذكره من تبعتها ؛ لكن أخذت عليه ، إما لاعتنان شبهة عرضت له أو لمن أخذ عنه ، وإمّا لأن ثالبه ومتعيّبه مقصّر عن مغزاه ، مغضوض الطرف دون مداه. وقد تعرض الشبه للفريقين (وتعترض على كلتا الطريقتين).
فلولا أن هذا العلم فى نفوس أهله ، والمتفيئين بظلّه ، كريم الطرفين ، جدد (١) السمتين ، لما تسابّوا بالهجنة فيه ، ولا تنابزوا بالألقاب فى تحصين فروجه ونواحيه ، ليطووا ثوبه على أعدل غروره (٢) ومطاويه.
نعم ، وإذا كانت هذه المناقضات والمثاقفات (٣) موجودة بين السلف القديم ، ومن باء فيه بالمنصب والشرف العميم ، ممن هم سرج الأنام ، والمؤتمّ بهديهم فى الحلال والحرام ، ثم لم يكن ذلك قادحا فيما تنازعوا فيه ، ولا غاضا منه ، ولا عائدا بطرف من أطراف التبعة عليه ، جاز مثل ذلك أيضا فى علم العرب ، الذى لا يخلص جميعه للدين خلوص الكلام والفقه له ، ولا يكاد يعدم أهله الأنق به ، والارتياح لمحاسنه. ولله أبو العباس أحمد بن يحيى ، وتقدّمه فى نفوس أصحاب الحديث ثقة وأمانة وعصمة وحصانة. وهم عيار هذا الشأن ، وأساس هذا البنيان.
وهذا أبو علىّ رحمهالله ، كأنه بعد معنا ، ولم تبن به الحال عنّا ، كان من تحوّبه وتأنّيه ، وتحرّجه كثير التوقّف فيما يحكيه ، دائم الاستظهار لإيراد ما يرويه.
فكان تارة يقول : أنشدت لجرير فيما أحسب ، وأخرى : قال لى أبو بكر فيما أظنّ ، وأخرى : فى غالب ظنىّ كذا ، وأرى أنّى قد سمعت كذا.
هذا جزء من جملة ، وغصن من دوحة ، وقطرة من بحر ، ممّا يقال فى هذا الأمر. وإنما أنسنا بذكره ، ووكلنا الحال فيه ، إلى تحقيق ما يضاهيه.
__________________
(١) الجدد : الأرض المستوية.
(٢) جمع غرّ ـ بفتح الغين ـ وغرور الثوب : مكاسره أى حيث يتثنى وينكسر.
(٣) يقال : ثاقف الرجل فثقفه كنصره غالبه فغلبه فى الحذق. القاموس (ثقف).