باب فى جمع الأشباه من حيث يغمض الاشتباه
هذا غور من اللغة بطين ، يحتاج مجتابه إلى فقاهة فى النفس ، ونصاعة من الفكر ، ومساءلة خاصّيّة ، ليست بمبتذلة ولا ذات هجنة.
ألقيت يوما على بعض من كان يعتادنى ، فقلت : من أين تجمع بين قوله :
لدن بهزّ الكفّ يعسل متنه |
|
فيه كما عسل الطريق الثعلب (١) |
وبين قولنا : اختصم زيد وعمرو؟ فأجبل (٢) ورجع مستفهما. فقلت : اجتماعهما من حيث وضع كل واحد منهما فى غير الموضع الذى بدئ له. وذلك أن الطريق خاصّ وضع موضع العامّ. (وذلك) أن وضع هذا أن يقال : كما عسل أمامه الثعلب ، وذلك الأمام قد كان يصلح لأشياء من الأماكن كثيرة : من طريق وعسف وغيرهما. فوضع الطريق ـ وهو بعض ما كان يصلح للإمام أن يقع عليه ـ موضع الإمام. فنظير هذا أنّ واو العطف وضعها لغير الترتيب ، وأن تصلح للأوقات الثلاثة ؛ نحو جاء زيد وبكر. فيصلح أن يكونا جاءا معا ، وأن يكون زيد قبل بكر ، وأن يكون بكر قبل زيد. ثم إنك قد تنقلها من هذا العموم إلى الخصوص. وذلك قولهم : اختصم زيد وعمرو. فهذا لا يجوز أن يكون الواو فيه إلا لوقوع الأمرين فى وقت واحد. ففى هذا أيضا إخراج الواو عن أوّل ما وضعت له فى الأصل : من صلاحها للأزمنة الثلاثة ، والاقتصار بها على بعضها ؛ كما اقتصر على الطريق
__________________
(١) البيت من الكامل ، وهو لساعدة بن جؤية الهذلى فى تخليص الشواهد ص ٥٠٣ ، وخزانة الأدب ٣ / ٨٣ ، ٨٦ ، والدرر ٣ / ٨٦ ، وشرح أشعار الهذليين ص ١١٢٠ ، وشرح التصريح ١ / ٣١٢ ، وشرح شواهد الإيضاح ص ١٥٥ ، وشرح شواهد المغنى ص ٨٨٥ ، والكتاب ١ / ٣٦ ، ٢١٤ ، ولسان العرب (وسط) ، (عسل) ، والمقاصد النحوية ٢ / ٥٤٤ ، ونوادر أبى زيد ص ١٥ ، وبلا نسبة فى أسرار العربية ص ١٨٠ ، وأوضح المسالك ٢ / ١٧٩ ، وجمهرة اللغة ص ٨٤٢ ، وشرح الأشمونى ١ / ١٩٧ ، ومغنى اللبيب ص ١١ ، وهمع الهوامع ١ / ٢٠٠.
(٢) وفى حديث عكرمة : ما لك أجبلت ، أى انقطعت ، من قولهم أجبل الحافر إذا أفضى إلى الجبل أو الصخر الذى لا يحيك فيه المعول. وسألته فأجبل ، أى وجدته جبلا. اللسان (جبل).