أما إمالتهم إياها وهي حروف تهج فليس ذلك لأنها منقلبة عن ياء ولا غيرها ، وذلك أنها حينئذ أصوات غير مشتقة ولا متصرفة ، ولا انقلاب في شيء منها لجمودها ، ولكن الإمالة فيها حينئذ إنما دخلتها من حيث دخلت «بلى» ، وذلك أنها شابهت بتمام الكلام واستقلاله بها وغناها عما بعدها الأسماء المستقلة بأنفسها ، فمن حيث جازت إمالة الأسماء كذلك أيضا جازت إمالة «بلى» ؛ ألا ترى أنك تقول في جواب من قال لك ألم تفعل كذا؟ : «بلى» فلا تحتاج «بلى» لكونها جوابا مستقلا إلى شيء بعدها ، فلما قامت بنفسها ، وقويت ، لحقت في القوة بالأسماء في جواز إمالتها كما أميل نحو «أنّى» و «متى» ، وكذلك أيضا إذا قلت : با تا ثا قامت هذه الحروف بأنفسها ، ولم تحتج إلى شيء يقوّيها ، ولا إلى شيء من اللفظ تتصل به ، فتضعف ، وتلطف لذلك الاتصال عن الإمالة المؤذنة بقوة الكلمة وتصرفها.
ويؤكد ذلك عندك ما رويناه عن قطرب من أن بعضهم قال : «لا أفعل» فأمال «لا» ، وإنما أمالها لما كانت جوابا قائمة بنفسها ، فقويت بذلك فلحقت بالقوة باب الأسماء والأفعال ، فأميلت كما أميلا ، فهذا وجه إمالتها وهي حروف هجاء.
وأما إمالتها وقد نقلت ، فصارت أسماء ، ومدّت ، فإنما فعلوا ذلك لأن هذه الألفات قد كانت قبل النقل والمدّ مألوفة فيها الإمالة ، فأقروها بعد المد والتسمية والإعراب بحالها ؛ ليعلموا أن هذه الممدودة المعربة هي تلك المقصورة قبل النقل المبنية ، لا لأن هذه الألفات عندهم الآن بعد النقل والمد مما سبيله أن يقضى بكونه منقلبا عن ياء. ولهذا نظائر في كلامهم ، منها إمالتهم الألف في «حبالى» ليعلم أن الواحدة قد كانت فيها ألف ممالة ، وهي حبلى ، فالألف الآن في «حبالى» إنما هي بدل من ياء «حبال» كما قالوا «دعوى» و «دعاو» ثم أبدلوا من ياء «حبال» ألفا ، وأمالوها كما كانت في الواحد ممالة ، محافظة على الواحد ، فكذلك حافظ هؤلاء أيضا ، فأمالوا قولهم : هذه حاء وياء لقولهم قبل الإعراب : با تا ثا حا خا.
ومما راعوا فيه حكم غيره مما هو أصل له إعلالهم العين في نحو : «أقام» و «أسار» و «استقام» و «استسار» ؛ ألا ترى أن الأصل في هذا «أقوم» و «أسير» و «استقوم» و «استسير» فنقلوا فتحة الواو والياء إلى ما قبلهما ، وقلبوهما لتحركهما في الأصل وانفتاح ما قبلهما الآن ، ولو لا أنهما انقلبتا في «قام» و «سار»