ومعلوم أنّ هذه الأماكن لم تعف على ترتيب ، إذ الوقوف على مثل هذه صعب متعذر ، أعني أن يكون الثاني من الأماكن قد عفا عند انقضاء عفاء الأول من غير مهلة بينهما. وبما ذكرناه أولا من قول العرب : «نزل المطر مكان كذا فمكان كذ فمكان كذا» ، وإن كان المطر قد نزل بهذه الأماكن في حين واحد.
والصحيح أنّ الفاء قد استقرّ لها الترتيب ، فمهما أمكن إبقاؤها على ما استقرّ لها كان أولى ، وقد أمكن ذلك بأن تجعل الترتيب بالنظر إلى الذكر ، وذلك أنّ قولهم : «عفا موضع كذا فموضع كذا فموضع كذا» ، قد لا تحضره أسماء الأماكن في حين الإخبار دفعة واحدة ، فهو في حين الإخبار متذكر لها متتبّعا ، فما سبق إلى ذكره أتى به أوّلا وما تأخّر في ذكره أتى به بالفاء ، وتجعل الفاء منبئة عن هذا المعنى لأنها قد تقرر فيها أنها تجعل الثاني بعد الأول بلا مهلة ، فمهما أمكن إبقاؤها على ذلك بوجه ما كان أولى.
واستدلّ من ذهب إلى أنّها لا ترتّب في جميع الأماكن بما استدلّ به الفراء والجرميّ ، إلا أنّهم حملوا سائر الأماكن على ذلك.
والذي يدل على فساد مذهب هؤلاء أنّ العرب تقول : «اختصم زيد وعمرو» ، ولا تقول : «اختصم زيد فعمرو». فلو كانت الفاء بمنزلة الواو في جميع المواضع لوجب أن يجوز في مثل هذا العطف بالفاء.
[٦ ـ ثمّ] :
وأما «ثم» فللجمع والترتيب والمهلة ، فإذا قلت : «قام زيد ثمّ عمرو» ، فالقائم أوّلا «زيد» ، و «عمرو» بعده بمهلة. وزعم بعضهم أنّها بمنزلة الواو لا ترتب ، واستدل على ذلك
______________________
ـ الأسماء الستّة. حسى : مضاف إليه مجرور بكسرة مقدّرة على الألف المحذوفة لفظا لا رسما. من فرتنى : جار ومجرور بكسرة مقدّرة على الألف ، متعلّقان بـ (عفا). فالفوارع : «الفاء» : حرف عطف ، «الفوارع» : معطوف على (ذو) مرفوع بالضمّة. فجنبا : «الفاء» : للعطف ، «جنبا» : معطوف على (الفوارع) مرفوع بالألف لأنه مثنى. أريك : مضاف إليه مجرور بالكسرة. فالتلاع : «الفاء» : للعطف ، «التلاع» : معطوف على (جنبا) مرفوع بالضمّة. الدوافع : صفة (التلاع) مرفوعة بالضمّة.
وجملة «عفا» : ابتدائية لا محلّ لها.
والشاهد فيه قوله : «عفا ذو حسى فالفوارع فجنبا أريك ...» حيث جاءت «الفاء» لترتيب الأماكن كما يرى الجرمي.