والصحيح أن هذا لم يكثر كثرة توجب القياس ، بل لم يجىء من ذلك إلّا هذا الذي ذكرناه إذ لا بال له إن كان شذّ ، فلذلك وجب تأويل جميع ذلك على حذف مضاف ، كأنه قال : من تأسيس أول يوم. فـ «من» داخلة في التقدير على التأسيس وهو مصدر. وكأنه قال : من مرّ حجج ومن مرّ دهر. والمرّ مصدر يسوغ دخول «من» عليه ؛ ومن طلوع الصبح ولذلك قابله بقوله : حتى تغرب الشمس ، والطلوع مصدر ؛ ومن تقدّم العام ومن تقدم عام أوّل ، وكأنّه قال : من بناء الآن أي ممّا بني الآن أو أحدث الآن.
وأما «قبل» و «بعد» فليسا بظرفين في الأصل وإنّما هما صفتان فكأنّك إذا قلت : «سرت قبلك» أو «سرت بعدك» ، أصله : سرت زمانا قبلك ، أي : قبل زمانك ، وسرت زمانا بعدك ، فلما لم يتمكنا في الظرفيّة جاز دخول «من» عليهما.
وأما التي للغاية فهي تدخل على ما هو محلّ لابتداء الفعل وانتهائه معا. وكذلك «أخذته من زيد» ، «زيد» أيضا هو محل ابتداء الأخذ وانتهائه معا.
وأما التي زعم النحويون أنها تكون لانتهاء الغاية ، فنحو قولك : «رأيت الهلال من داري من خلل السحاب» ، فابتداء الرؤية وقعت من الدار ، وانتهاؤها من خلل السحاب. وكذلك قولك : «شممت من داري الريحان من الطريق» ، فابتداء شمّ الريحان من الدار وانتهاؤه إلى الطريق.
وهذا وأمثاله لا حجة لهم فيه لأنّه يحتمل أن يكون كلّ واحد منهما لابتداء الغاية ، فتكون الأولى لابتداء الغاية في حق الفاعل وتكون الثانية لابتداء الغاية في حق المفعول. ألا ترى أن ابتداء وقوع رؤية الهلال من الفاعل إنّما كان في داره ، وابتداء وقوع الرؤية بالهلال إنّما كان في خلل السحاب ، لأن الرؤية إنما وقعت بالهلال وهو في خلل السحاب. وكذلك ابتداء وقوع الشم إنما كان من الدار ، وابتداء وقوعه بالريحان إنّما كان من الطريق لأن الشّم إنّما يسلّط على الريحان وهو في الطريق. ونظير ذلك ما جاء في بعض الأثر وهو كتاب أبي عبيدة بن الجراح إلى عمر بالشام : «الغوث الغوث». وأبو عبيدة لم يكن في وقت كتبه إلى عمر بالشام بل الذي كان بالشام عمر ، فقولنا : بالشام ، ظرف للفعل بالنظر إلى المفعول ، لأنّ الكتب إلى عمر إنما كان وعمر بالشام.
ومن الناس من جعل «من» الثانية لابتداء الغاية ، إلا أنّه جعل العامل فيها محذوفا كأنه قال : رأيت الهلال من داري ظاهرا من خلل السحاب. فجعل «من» لابتداء غاية الظهور ، لأنّ