تعالى : (وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى. وَأَنَّهُ هُوَ أَماتَ وَأَحْيا) [القمر : ٤٣ ـ ٤٤] ، وقوله (وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنى وَأَقْنى) [القمر : ٤٨] ، المعنى هو الذي منه الإحياء والإماتة والإغناء والإقناء. وهكذا كلّ موضع كان القصد فيه أن تثبت المعنى في نفسه فعلا للشيء ، وأن تخبر بأنّ من شأنه أن يكون منه ، أو لا يكون إلّا منه ، أو لا يكون منه ، فإن الفعل لا يعدّى هناك ، لأن تعديته تنقض الغرض وتغيّر المعنى. ألا ترى أنك إذا قلت : «هو يعطي الدنانير» ، كان المعنى على أنك قصدت أن تعلم السّامع أن الدنانير تدخل في عطائه ، أو أنه يعطيها خصوصا دون غيرها ، وكان غرضك على الجملة بيان جنس ما تناوله الإعطاء ، لا الإعطاء في نفسه ، ولم يكن كلامك مع من نفى أن يكون كان منه إعطاء بوجه من الوجوه بل مع من أثبت له إعطاء ، إلا أنه لم يثبت إعطاء الدّنانير. فاعرف ذلك ، فإنّه أصل كبير عظيم النفع.
فهذا قسم من خلوّ الفعل عن المفعول ، وهو أن لا يكون له مفعول يمكن النّصّ عليه.
وقسم ثان : وهو أن يكون له مفعول مقصود قصده معلوم ، إلّا أنه يحذف من اللفظ لدليل الحال عليه. وينقسم إلى جليّ لا صنعة فيه ، وخفيّ تدخله الصنعة.
فمثال الجليّ قولهم : «أصغيت إليه» ، وهم يريدون «أذني» ، و «أغضيت عليه» ، والمعنى «جفني».
وأما الخفيّ الذى تدخله الصّنعة فيتفنّن ويتنوّع.
فنوع منه ، أن تذكر الفعل وفي نفسك له مفعول مخصوص قد علم مكانه ، إما لجري ذكر ، أو دليل حال ، إلا أنك تنسيه نفسك وتخفيه ، وتوهم أنك لم تذكر ذلك الفعل إلا لأن تثبت نفس معناه ، من غير إن تعدّيه إلى شيء أو تعرّض فيه لمفعول.
ومثاله قول البحتري : [من الخفيف]
شجو حسّاده وغيظ عداه |
|
أن يرى مبصر ويسمع واع (١) |
المعني ، لا محالة : أن يرى مبصر محاسنه ، ويسمع واع أخباره وأوصافه ، ولكنّك تعلم على ذلك أنه كأنّه يسرق علم ذلك من نفسه ، ويدفع صورته عن وهمه ،
__________________
(١) البيت في ديوانه ، وهو يمدح المعتز بالله بن المتوكل على الله ، ويعرض بالمستعين بالله بن المعتصم بالله من بني العباس. والبيت في التبيان (١٩١) ، والإيضاح (١١٠) ، وأورده محمد بن علي الجرجاني في الإشارات (٨١).