ليحصل له معنى شريف وغرض خاصّ. وذاك أنه يمدح خليفة ، وهو المعتزّ ، ويعرّض بخليفة وهو المستعين ، فأراد أن يقول : إن محاسن المعتز وفضائله ، المحاسن والفضائل يكفي فيها أن يقع عليها بصر ويعيها سمع حتّى يعلم أنه المستحق للخلافة ، والفرد الوحيد الذي ليس لأحد أن ينازعه مرتبتها ، فأنت ترى حسّاده وليس شيء أشجى لهم وأغيظ ، من علمهم بأن هاهنا مبصرا يرى وسامعا يعي ، حتى ليتمنّون أن لا يكون في الدنيا من له عين يبصر بها ، وأذن يعي معها ، كي يخفى مكان استحقاقه لشرف الإمامة ، فيجدوا بذلك سبيلا إلى منازعته إيّاها.
وهذا نوع آخر منه ، وهو أن يكون معك مفعول معلوم مقصود قصده ، قد علم أنه ليس للفعل الذي ذكرت مفعول سواه ، بدليل الحال أو ما سبق من الكلام ، إلا أنك تطرحه وتتناساه وتدعه يلزم ضمير النفس ، لغرض غير الذي مضى. وذلك الغرض أن تتوفّر العناية على إثبات الفعل للفاعل ، وتخلص له ، وتنصرف بجملتها وكما هي إليه.
ومثاله قول عمرو بن معد يكرب : [من الطويل]
فلو أنّ قومي أنطقتني رماحهم |
|
نطقت ولكنّ الرّماح أجرّت (١) |
«أجرّت» فعل متعدّ ، ومعلوم أنه لو عدّاه لما عدّاه إلّا إلى ضمير المتكلم نحو : «ولكن الرّماح أجرّتني» ، وأنه لا يتصوّر أن يكون هاهنا شيء آخر يتعدّى إليه ، لاستحالة أن يقول : «فلو أن قومي أنطقتني رماحهم» ، ثم يقول : «ولكن الرماح أجرّت غيري» ، إلا أنك تجد المعنى يلزمك أن لا تنطق بهذا المفعول ولا تخرجه إلى لفظك. والسبب في ذلك أن تعديتك له توهم ما هو خلاف الغرض ، وذلك أن الغرض هو أن يثبت أنه كان من الرماح إجرار وحبس للألسن عن النطق ، وأن يصحّح وجود ذلك. ولو قال : «أجرّتني» ، وجاز أن يتوهم أنه لم يعن بأن يثبت للرماح إجرارا ، بل الذي عناه أن يبيّن أنها أجرته. فقد يذكر الفعل كثيرا والغرض منه ذكر المفعول ، مثاله أنك تقول : «أضربت زيدا؟» وأنت لا تنكر أن يكون كان من المخاطب ضرب ، وإنّما تنكر أن يكون وقع الضرب منه على زيد ، وأن يستجيز ذلك أو يستطيعه. فلما كان في تعدية «أجرّت» ما يوهم ذلك ، وقف فلم يعدّ البتة ، ولم ينطق بالمفعول ، لتخلص العناية لإثبات الإجرار للرّماح وتصحيح أنه كان منها ، وتسلم بكليتها لذلك.
__________________
(١) عمر بن معد يكرب الزبيدي اليمني شاعر مخضرم ، والبيت أورده القزويني في الإيضاح (١١٠).