ومثله قول جرير : [من الطويل]
أمنّيت المنى وخلبت حتّى |
|
تركت ضمير قلبي مستهاما (١) |
الغرض أن يثبت أنه كان منها تمنية وخلابة ، وأن يقول لها : أهكذا تصنعين؟ وهذه حيلتك في فتنة الناس؟
ومن بارع ذلك ونادره ، ما تجده في هذه الأبيات. روى المرزبانيّ في «كتاب الشعر» بإسناد ، قال : لما تشاغل أبو بكر الصديق رضياللهعنه بأهل الرّدة ، استبطأته الأنصار فكلّموه ، فقال : إمّا كلّفتموني أخلاق رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، فو الله ما ذاك عندي ولا عند أحد من الناس ، ولكنّي والله ما أوتى من مودّة لكم ولا حسن رأي فيكم ، وكيف لا نحبّكم؟ فو الله ما وجدت مثلا لنا ولكم إلّا ما قال طفيل الغنويّ لبني جعفر ابن كلاب : [من الطويل]
جزى الله عنّا جعفرا حين أزلقت |
|
بنا نعلنا في الواطئين فزلّت |
أبوا أن يملّونا ، ولو أنّ أمّنا |
|
تلاقي الّذي لاقوه منّا لملّت |
هم خلطونا بالنّفوس وألجئوا |
|
إلى حجرات أدفأت وأظلّت (٢) |
فيها حذف مفعول مقصود قصده في أربعة مواضع قوله : «لملّت» ، و «ألجئوا» و «أدفأت» و «أظلّت» ، لأن الأصل : «لملّتنا» و «ألجئونا إلى حجرات أدفأتنا وأظلّتنا» ، إلّا أنّ الحال على ما ذكرت لك ، من أنه في حدّ المتناسى ، حتى كأن لا قصد إلى مفعول ، وكأن الفعل قد أبهم أمره فلم يقصد به قصد شيء يقع عليه ، كما يكون إذا قلت : «قد ملّ فلان» ، تريد أن تقول : قد دخله الملال ، من غير أن تخصّ شيئا ، بل لا تزيد على أن تجعل الملال من صفته ، وكما تقول : «هذا بيت يدفئ ويظلّ» ، تريد أنه بهذه الصفة.
واعلم أن لك في قوله : «أجرّت» ، و «لملّت» ، فائدة أخرى زائدة على ما ذكرت من توفير العناية على إثبات الفعل ، وهي أن تقول : كان من سوء بلاء القوم ومن تكذيبهم عن القتال (٣) ما يجرّ مثله ، وما القضية فيه أنه لا يتّفق على قوم إلّا خرس شاعرهم فلم يستطع نطقا ، وتعديتك الفعل تمنع من هذا المعنى ، لأنك إذا قلت :
__________________
(١) البيت في ديوانه (٣٧٩) ، وقبله :
ترى صديان مشرعة شفاء |
|
فحام وليس واردها وحاما |
(٢) الأبيات في الأغاني (١٥ / ٣٥٦) ، لطفيل الغنوي ، والإيضاح (١١٠ ، ١١١).
(٣) تكذيبهم عن القتال كذب عن أمر أراده أحجم عنه. القاموس : / كذب / (١٦٦).