ثمّ لم ينفكّ العالمون به والذين هم من أهله ، من دخول الشبهة فيه عليهم ، ومن اعتراض السّهو والغلط لهم. روي عن الأصمعي أنّه قال (١) : كنت أشدو من أبي عمرو بن العلاء وخلف الأحمر ، وكان يأتيان بشارا فيسلّمان عليه بغاية الإعظام ثم يقولان : يا أبا معاذ ، ما أحدثت؟ فيخبرهما وينشدهما ، ويسألانه ويكتبان عنه متواضعين له ، حتى يأتي وقت الزّوال ، ثم ينصرفان. وأتياه يوما فقالا : ما هذه القصيدة التي أحدثتها في سلم بن قتيبة؟ قال : هي التي بلغتكم. قالوا : بلغنا أنّك أكثرت فيها من الغريب. قال : نعم ، بلغني أن سلم بن قتيبة يتباصر بالغريب ، فأحببت أن أورد عليه ما لا يعرف. قالوا : فأنشدناها يا أبا معاذ. فأنشدهما : [من الخفيف]
بكّرا صاحبيّ قبل الهجير |
|
إنّ ذاك النّجاح في التّبكير (٢) |
حتى فرغ منها ، فقال له خلف : لو قلت يا أبا معاذ مكان «إنّ ذاك النجاح في التبكير» :
بكّرا فالنّجاح في التّبكير
كان أحسن. فقال بشار : إنما بنيتها أعرابية وحشية فقلت : إنّ ذاك النجاح في التبكير ، كما يقول الأعراب البدويّون ، ولو قلت : «بكّرا فالنجاح» ، كان هذا من كلام المولّدين ، ولا يشبه ذاك الكلام ، ولا يدخل في معنى القصيدة. قال : فقام خلف فقبّل بين عينيه» (٣) ، فهل كان هذا القول من خلف والنّقد على بشّار ، إلّا للطف المعنى في ذلك وخفائه؟.
واعلم أن من شأن «إنّ» إذا جاءت على هذا الوجه ، أن تغني غناء «الفاء» العاطفة مثلا ، وأن تفيد من ربط الجملة بما قبلها أمرا عجيبا. فأنت ترى الكلام بها مستأنفا غير مستأنف ، ومقطوعا موصولا معا. أفلا ترى أنك لو أسقطت «إنّ» من قوله : «إنّ ذاك النجاح في التبكير» ، لم تر الكلام يلتئم ، ولرأيت الجملة الثانية لا تتّصل بالأولى ولا تكون منها بسبيل ، حتى تجيء بالفاء فتقول : «بكّرا صاحبيّ قبل الهجير ، فذاك النجاح في التبكير» ، ومثله قول بعض العرب : [من الرجز]
__________________
(١) الخبر في الأغاني (٣ / ١٩٠).
(٢) البيت لبشار بن برد في ديوانه (٣ / ٢٠٣) ، والإشارات والتنبيهات للجرجاني (٣١) ، والأغاني (٣ / ١٨٥). والهجير : من الزوال إلى العصر أو شدة الحرارة.
(٣) يقصد فقبل بشار بين عينيه وهي في (الأغاني ٣ / ١٩٠).