فغنّها ، وهي لك الفداء |
|
إنّ غناء الإبل الحداء (١) |
فانظر إلى قوله : «إنّ غناء الإبل الحداء» ، وإلى ملاءمته الكلام قبله ، وحسن تشبّثه به ، وإلى حسن تعطّف الكلام الأوّل عليه. ثم انظر إذا تركت «إنّ» فقلت : «فغنّها وهي لك الفداء ، غناء الإبل الحداء» ، كيف تكون الصّورة؟ وكيف ينبو أحد الكلامين عن الآخر؟ وكيف يشئم هذا ويعرق ذاك؟ حتى لا تجد حيلة في ائتلافهما حتّى تجتلب لهما «الفاء» فتقول : «فغنّها وهي لك الفداء ، فغناء الإبل الحداء» ، ثم تعلم أن ليست الألفة بينهما من جنس ما كان ، وأن قد ذهبت الأنسة التي كنت تجد ، والحسن الذي كنت ترى.
وروي عن عنبسة (٢) أنه قال : قدم ذو الرّمّة الكوفة فوقف ينشد الناس بالكناسة قصيدته الحائية التي منها : [من الطويل]
هي البرء ، والأسقام ، والهمّ ، والمنى ، |
|
وموت الهوى في القلب منّي المبرّح |
وكان الهوى بالنأي يمحى فيمّحي ، |
|
وحبّك عندي يستجدّ ويربح |
إذا غيّر النّأي المحبّين لم يكد |
|
رسيس الهوى من حبّ ميّة يبرح (٣) |
قال : فلما انتهى إلى هذا البيت ناداه ابن شبرمة (٤) : يا غيلان (٥) ، أراه قد برح! قال : فشنق ناقته (٦) وجعل يتأخّر بها ويفكّر ، ثم قال :
__________________
(١) البيت بلا نسبة في جمهرة اللغة (٩٦٤ ، ١٠٤٧) ، والإيضاح (١ / ٩٤) طبعة دار الكتاب اللبناني ، والإشارات للجرجاني (٣١) ، والمفتاح للسكاكي : (٢٦٢). والضمير في قوله : «فغنها» للإبل أي : فغن لها. الحداء بضم الحاء وكسرها : مصدر حدا الإبل إذا ساقها وغنى لها.
(٢) عنبسة : هو عنبسة بن معدان الغيل الميساني وهو أشهر من أخذ النحو عن أبي الأسود الدؤلي (بغية الوعاة) والكناسة هو سوق في الكوفة.
(٣) الأبيات لذي الرمة في ديوانه (٤٥) ط ، دار الكتب العلمية ، وهي في الأغاني منسوبة إليه (١٨ / ٣٣) ، والأبيات في الديوان ليست متتالية ، ورواية الديوان : «والهم ذكرها» بدل «الهم والمنى» ، و «لو لا التنائي» بدل «في القلب مني». وشطر البيت الثاني هكذا : «وبعض الهوى بالهجر يمحى فيمتحى». الرّسّ : ابتداء الشيء ، والرسّ والرسيس واحد : أول الحمى الذي يؤذن بها ويدل على ورودها ورس الهوى في قلبه والسقم في جسمه رسّا ورسيسا ، وأرس : دخل وثبت ، ورس الحب ورسيسه : بقيته وأثره. اللسان (رسس).
(٤) ابن شبرمة : وهو عبد الله بن شبرمة من قضاة الكوفة توفي سنة (٤٤ ه). شذرات الذهب (١ / ٧٠٧).
(٥) غيلان : وهو اسم ذي الرمة (غيلان بن عقبة).
(٦) شنق ناقته : شنق البعير يشنقه ويشنقه : كفه بزمامه حتى ألزق ذفراه بقادمة الرجل أو رفع رأسه وهو راكبه. القاموس (١٨ / ٣٤)