إذا غيّر النأي المحبّين لم أجد |
|
رسيس الهوى من حبّ ميّة يبرح |
قال : فلمّا انصرفت حدّثت أبي ، قال : أخطأ ابن شبرمة حين أنكر على ذي الرّمة ما أنكر ، وأخطأ ذو الرمة حين غيّر شعره لقول ابن شبرمة ، إنما هذا كقول الله تعالى : (ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها) [النور : ٤٠] ، وإنّما هو : لم يرها ولم يكد (١).
واعلم أنّ سبب الشّبهة في ذلك أنه قد جرى في العرف أن يقال : «ما كاد يفعل» و «لم يكد يفعل» في فعل قد فعل ، على معنى أنه لم يفعل إلّا بعد الجهد ، وبعد أن كان بعيدا في الظّن أن يفعله ، كقوله تعالى : (فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ) [البقرة : ٧١] ، فلما كان مجيء النفي في «كاد» على هذا السبيل ، توهّم ابن شبرمة أنه إذا قال : «لم يكد رسيس الهوى من حبّ ميّة يبرح» فقد زعم : أن الهوى قد برح ، ووقع لذي الرمة مثل هذا الظّن.
وليس الأمر كالذي ظنّاه ، فإن الذي يقتضيه اللفظ إذا قيل : «لم يكد يفعل» و «ما كاد يفعل» ، أن يكون المراد أن الفعل لم يكن من أصله ، ولا قارب أن يكون ، ولا ظنّ أنه يكون. وكيف بالشك في ذلك؟ وقد علمنا أن «كاد» موضوع لأن يدلّ على شدة قرب الفعل من الوقوع ، وعلى أنّه قد شارف الوجود. وإذا كان كذلك ، كان محالا أن يوجب نفيه وجود الفعل ، لأنه يؤدّي إلى أن يوجب نفي مقاربة الفعل الوجود وجوده ، وأن يكون قولك : «ما قارب أن يفعل» ، مقتضيا على البتّ أنه قد فعل. وإذ قد ثبت ذلك ، فمن سبيلك أن تنظر. فمتى لم يكن المعنى على أنه قد كانت هناك صورة تقتضي أن لا يكون الفعل ، وحال يبعد معها أن يكون ، ثمّ تغير الأمر ، كالذي تراه في قوله تعالى : (فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ) [البقرة : ٧١] ، فليس إلّا أن تلزم الظاهر ، وتجعل المعنى على أنك تزعم أن الفعل لم يقارب أن يكون ، فضلا عن أن يكون.
فالمعنى إذن في بيت ذي الرمة على أن الهوى من رسوخه في القلب ، وثبوته فيه وغلبته على طباعه ، بحيث لا يتوهّم عليه البراح ، وأن ذلك لا يقارب أن يكون ، فضلا عن أن يكون ، كما تقول : «إذا سلا المحبّون وفتروا في محبتهم ، لم يقع لي في وهم ، ولم يجر منّي على بال : أنه يجوز عليّ ما يشبه السّلوة ، وما يعدّ فترة ، فضلا عن أن يوجد ذلك مني وأصير إليه.
__________________
(١) الخبر في (الأغاني ١٨ / ٣٤).