وينبغي أن تعلم أنهم إنما قالوا في التفسير : «لم يرها ولم يكد» ، فبدءوا فنفوا الرؤية ، ثم عطفوا «لم يكد» عليه ، ليعلموك أن ليس سبيل «لم يكد» هاهنا سبيل «ما كادوا» في قوله تعالى : (فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ) [البقرة : ٧١] في أنه نفي معقّب على إثبات ، وأن ليس المعنى على أن رؤية كانت من بعد أن كادت لا تكون ، ولكن المعنى على أن رؤيتها لا تقارب أن تكون ، فضلا عن أن تكون. ولو كان «لم يكد» يوجب وجود الفعل ، لكان هذا الكلام منهم محالا جاريا مجرى أن تقول : «لم يرها ورآها» ، فاعرفه.
وهاهنا نكتة ، وهي أنّ «لم يكد» في الآية والبيت واقع في جواب «إذا» ، والماضي إذا وقع في جواب الشرط على هذا السبيل ، كان مستقبلا في المعنى فإذا قلت : «إذا خرجت لم أخرج» ، كنت قد نفيت خروجا فيما يستقبل. وإذا كان الأمر كذلك ، استحال أن يكون المعنى في البيت أو الآي على الفعل قد كان ، لأنه يؤدي إلى أن يجيء «بلم أفعل» ماضيا صريحا في جواب الشرط فتقول : «إذا خرجت لم أخرج أمس» ، وذلك محال. ومما يتّضح فيه هذا المعنى قول الشاعر : [من المتقارب]
ديار لجهمة بالمنحنى |
|
سقاهنّ مرتجز باكر |
وراح عليهنّ ذو هيدب |
|
ضعيف القوى ، ماؤه زاخر |
إذا رام نهضا بها لم يكد |
|
كذي السّاق أخطأها الجابر (١) |
وأعود إلى الغرض. فإذا بلغ من دقّة هذه المعاني أن يشتبه الأمر فيها على مثل خلف الأحمر وابن شبرمة ، وحتى يشتبه على ذي الرمة في صواب قاله ، فيرى أنه غير صواب ، فما ظنك بغيرهم؟ وما يعجبك من أن يكثر التخليط فيه؟ ومن العجب في هذا المعنى قول أبي النجم : [من الرجز]
قد أصبحت أمّ الخيار تدّعي |
|
عليّ ذنبا كلّه لم أصنع (٢) |
__________________
(١) الأبيات في وصف سحاب ، ارتجز الرعد : تدارك صوته وتتابع ، والمراد السحاب ، ويقال : ترجز السحاب إذا تحرك بطيئا لكثرة مائه ، والباكر : صاحب البكور ومن يأتي غدوة. الهيدب : ذيل السحاب المتدلي. والزاخر : الفائض الغزير.
(٢) البيت أورده السكاكي في المفتاح (٥٠٤) ، ومحمد بن علي الجرجاني في الإشارات (٢٥) ، وعزاه لأبي النجم ، وبدر الدين بن مالك في المصباح (١٤٤) ، والقزويني في الإيضاح (٢٨) ، والطيبي في التبيان (١ / ٣٢١) ، وخزانة الأدب (١ / ٣٥٩) ، والكتاب لسيبويه ، وشرح عقود الجمان (١ / ٥٣) ، والأغاني (٢٣ / ٣٦). وأبو النجم : هو الفضل بن قدامة بن عبيد الله بن بكر ابن وائل من رجاز الإسلام الفحول المقدمين ، وفي الطبقة الأولى منهم قال عنه أبو عمرو بن العلاء : كان أبو النجم أبلغ في النعت من العجاج. توفي سنة (١٣٠ ه) ، وانظر ترجمته في الأغاني (١٠ / ١٨٣).