أن يكون اللفظ دالّا ، لأن مراعاة التعادل إنما تصعب إذا احتيج مع ذلك إلى مراعاة المعاني ، إذا تأملت ـ يذهب (١) إلى شيء ظريف ، وهو أن يصعب مرام اللفظ بسبب المعنى ، وذلك محال ، لأن الذي يعرفه العقلاء عكس ذلك ، وهو أنه يصعب مرام المعنى بسبب اللفظ ، فصعوبة ما صعب من السّجع ، هي صعوبة عرضت في المعاني من أجل الألفاظ ، وذاك أنه صعب عليك أن توفق بين معاني تلك الألفاظ المسجّعة وبين معاني الفصول التي جعلت أردافا لها ، فلم تستطع ذلك إلا بعد أن عدلت عن أسلوب إلى أسلوب ، أو دخلت في ضرب من المجاز ، أو أخذت في نوع من الاتّساع ، وبعد أن تلطّفت على الجملة ضربا من التلطّف.
وكيف يتصوّر أن يصعب مرام اللفظ بسبب المعنى ، وأنت إن أردت الحقّ لا تطلب اللفظ بحال ، وإنما تطلب المعنى ، وإذا ظفرت بالمعنى ، فاللفظ معك وإزاء ناظرك؟ وإنما كان يتصوّر أن يصعب مرام اللفظ من أجل المعنى ، أن لو كنت إذا طلبت المعنى فحصّلته ، احتجت إلى أن تطلب اللفظ على حدة. وذلك محال.
هذا ، وإذا توهّم متوهّم أنّا نحتاج إلى أن نطلب اللفظ ، وأن من شأن الطلب أن يكون هناك ، فإن الذي يتوهم أنه يحتاج إلى طلبه ، هو ترتيب الألفاظ في النّطق لا محالة. وإذا كان كذلك ، فينبغي لنا أن نرجع إلى نفوسنا فننظر ، هل يتصوّر أن نرتّب معاني أسماء وأفعال وحروف في النفس ، ثم يخفى علينا مواقعها في النطق ، حتى نحتاج في ذلك إلى فكر وروية؟ وذلك ما لا يشكّ فيه عاقل إذا هو رجع إلى نفسه.
وإذا بطل أن يكون ترتيب اللفظ مطلوبا بحال ، ولم يكن المطلوب أبدا إلّا ترتيب المعاني ، وكان معوّل هذا المخالف على ذلك ، فقد اضمحلّ كلامه ، وبان أنه ليس لمن حام في حديث المزية والإعجاز حول «اللفظ» ، ورام أن يجعله السبب في هذه الفضيلة ، إلا التّسكّع في الحيرة ، والخروج عن فاسد من القول إلى مثله. والله الموفق للصواب.
فإن قيل : إذا كان اللفظ بمعزل عن المزيّة التي تنازعنا فيها ، وكانت مقصورة على المعنى ، فكيف كانت «الفصاحة» من صفات اللّفظ البتة؟ كيف امتنع أن يوصف بها المعنى فيقال : «معنى فصيح ، وكلام فصيح المعنى»؟.
قيل : إنّما اختصّت الفصاحة باللّفظ وكانت من صفته ، من حيث كانت عبارة عن كون اللّفظ على وصف إذا كان عليه ، دلّ على المزيّة التي نحن في حديثها ، وإذا
__________________
(١) سياق الجملة كما يلي : والمتعلل بما ذكرت ... يذهب ...