اختلاف الليل والنهار ، وإنزال الرزق من السماء ، وإحياء الأرض بعد موتها ، وتصريف الرياح يقتضي رجاحة العقل ورصانته ؛ لنعلم أن من صنع هذه الجزئيات هو الذي صنع العالم الكلّي التي هي أجرامه وعوارض عنه. ولا يجوز أن يكون بعضها صنع بعضا ، فقد قام البرهان على أن للعالم [الكلي] (١) صانعا مختارا ، فلذلك اقتضت البلاغة أن تكون فاصلة الآية الثالثة : (لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) ، وإن احتيج إلى العقل (٢) في الجميع ؛ إلا أن ذكره هاهنا أنسب بالمعنى الأول ؛ إذ بعض من يعتقد صانع العالم ربما قال : إن بعض هذه الآثار يصنع بعضا ، فلا بد إذا من التّدبر بدقيق الفكر وراجح العقل.
ومنه قوله تعالى حكاية عن لقمان : (يا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللهُ إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ) (لقمان : ١٦).
ومنه قوله تعالى : (أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ) (البقرة : ٧٦). والمناسبة فيه قوّية ؛ لأن من دلّ عدوّه على عورة نفسه ، أو أعطاه (٣) سلاحه ليقتله به ، فهو جدير بأن يكون مقلوب العقل ؛ فلهذا ختمها بقوله : (أَفَلا تَعْقِلُونَ) ، [والمناسبة فيه قويّة] (٤).
وهذه الفاصلة لا تقع إلا في سياق إنكار فعل غير مناسب في العقل ؛ نحو قوله تعالى : (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ) (البقرة : ٤٤) ؛ لأنّ فاعل غير المناسب ليس بعاقل.
وقوله [تعالى] : (قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ) (سبأ : ٢٦) ، ختم بصفة العلم إشارة إلى الإحاطة بأحوالنا وأحوالكم ؛ وما نحن عليه من الحق ، وما أنتم (٥) عليه من الباطل وإذا كان عالما بذلك ، فنسأله القضاء علينا [وعليكم] (٦) ، بما يعلم منا ومنكم.
فصل
وقد تجتمع فواصل في موضع واحد ويخالف بينها ؛ وذلك في مواضع :
__________________
(١) من المطبوعة.
(٢) في المخطوطة : (للعقل).
(٣) في المخطوطة : (وأعطاه).
(٤) ساقط من المطبوعة.
(٥) في المخطوطة : (وأنتم).
(٦) من المطبوعة.