وذكر غيره أنّ الذي استبدّ به عثمان جمع الناس على قراءة محصورة ، والمنع من غير ذلك ، قال القاضي أبو بكر في «الانتصار» (١) : «لم يقصد عثمان قصد أبي بكر في جمع نفس (٢) القرآن بين لوحين ؛ وإنما قصد جمعهم على القراءات الثابتة المعروفة عن النبي صلىاللهعليهوسلم وإلغاء ما ليس كذلك ، وأخذهم بمصحف لا تقديم فيه ولا تأخير ، ولا تأويل أثبت مع تنزيل. ومنسوخ تلاوته كتب مع مثبت رسمه ومفروض قراءته (٣) وحفظه ، خشية دخول الفساد والشبهة على من يأتي بعد». انتهى (٤).
وقد روى البخاريّ في «صحيحه» عن أنس «أن حذيفة [بن اليمان] (٥) قدم على عثمان ، وكان يغازي أهل الشام في فتح أرمينية وأذربيجان مع أهل العراق ، فأفزع حذيفة اختلافهم في القراءة وقال لعثمان : أدرك هذه الأمة قبل أن يختلفوا اختلاف اليهود والنصارى.
فأرسل عثمان إلى حفصة : أن أرسلي إلينا الصحف ننسخها في المصاحف ثم نردّها إليك ؛ فأرسلت بها إليه ، فأمر زيد بن ثابت وعبد الله بن الزبير وسعد بن أبي وقّاص وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام فنسخوها في المصاحف. قال عثمان للرهط القرشيّين الثلاثة : إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن فاكتبوه بلسان قريش ؛ فإنما نزل بلسانهم. ففعلوا حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحف ردّ عثمان الصّحف إلى حفصة. وأرسل في كل أفق بمصحف مما نسخوا ، وأمر بما سواه من القرآن في كل صحيفة أو مصحف أن يحرق» (٦).
وفي هذه إثبات ظاهر أنّ الصحابة جمعوا بين الدّفتين القرآن المنزّل من غير زيادة ولا نقص. والذي حملهم على جمعه ما جاء في الحديث أنّه كان مفرّقا في العسب واللّخاف وصدور الرجال ، فخافوا ذهاب بعضه بذهاب حفظته فجمعوه وكتبوه كما سمعوه من النبي صلىاللهعليهوسلم ، من غير أن قدّموا شيئا أو أخّروا. وهذا الترتيب كان منه صلىاللهعليهوسلم بتوقيف لهم على ذلك ؛ وأن هذه الآية عقب تلك الآية ، فثبت أن سعي الصحابة في جمعه في موضع واحد ، لا في ترتيب ؛ فإن القرآن مكتوب في اللوح المحفوظ على هذا الترتيب الذي هو في مصاحفنا الآن ، أنزله الله جملة واحدة إلى سماء الدنيا كما قال الله تعالى : (شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ)
__________________
(١) هو محمد بن الطيب أبو بكر الباقلاني تقدم ص ١١٧ وأما كتابه «الانتصار» فقد تقدم الكلام عنه ص ٢٧٨.
(٢) في المخطوطة : (يقرأ).
(٣) في المخطوطة : (ومفروضة قرآنه).
(٤) أورد قوله السيوطي في الإتقان ١ / ١٧١.
(٥) ساقطة من المخطوطة.
(٦) أخرجه البخاري في الصحيح ٩ / ١١ ، كتاب فضائل القرآن (٦٦) ، باب جمع القرآن (٣) ، الحديث (٤٩٨٧).