كتابه ، فإنّ ذلك ، من أدلّ الدّلائل على حكمة الله ـ عزّ وجلّ ـ الباهرة وقدرته القاهرة وعزّته الظّاهرة. لأنّه علم أنّ براهين الأنبياء ـ عليه السّلام ـ تكبر في صدور أممهم ، وأنّ منهم من يتّخذ بعضهم إلها كالّذي كان من النّصارى في ابن مريم. فذكرها ، دلالة على تخلّفهم عن الكمال الّذي تفرّد (١) به ـ عزّ وجلّ ـ ألم تسمع إلى قوله في صفة عيسى ، حيث قال فيه وفي أمّه : (كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ) ، يعني : من أكل الطّعام كان له ثقل. ومن كان له ثقل فهو بعيد ممّا ادعته النّصارى لابن مريم.
واعلم ، أنّه ـ تعالى ـ بيّن أوّلا أقصى ما لهما من كمال. ودلّ على أنّه لا يوجب لهما الألوهيّة ، لأنّ كثيرا من النّاس يشاركهما في مثله. ثمّ نبّه على نقصهما ، وذكر ما ينافي الرّبوبيّة ويقتضي أن يكونا من عداد المركّبات الكائنة الفاسدة. ثمّ عجب ممّن يدّعي الرّبوبيّة لهما مع أمثال هذه الأدلّة الظّاهرة ، فقال :
(انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ) (٧٥) : كيف يصرفون عن استماع الحقّ وتأمّله.
و «ثم» لتفاوت ما بين العجبين ، أي : إنّ بياننا للآيات عجب. وإعراضهم عنها أعجب.
«(قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً) ، يعني : عيسى.
وهو وإن ملك ذلك بتمليك الله إيّاه ، لا يملكه من ذاته. ولا يملك مثل ما يضر الله به من البلايا والمصائب ، وما ينفع به من الصّحّة والسّعة.
وإنّما قال : «ما» نظرا إلى ما هو عليه في ذاته ، توطئة لنفي القدرة عنه رأسا ، وتنبيها على أنّه من هذا الجنس. ومن كان له حقيقة تقبل المجانسة والمشاركة ، فبمعزل عن الألوهيّة.
وإنّما قدّم الضّرّ ، لأنّ التّحرّز عنه أهمّ من تحرّي النّفع.
(وَاللهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) (٧٦) : بالأقوال والعقائد. فيجازي عليها ، إن خيرا فخير ، وإن شرا فشرّ.
__________________
(١) هكذا في المصدر. وفي النسخ : انفرد.