الموضع الثالث : قوله سبحانه وتعالى : (وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ) [الأنعام : ١٠٩] ، فيمن فتح الهمزة ؛ فقال قوم منهم الخليل والفارسي : «لا» زائدة ، وإلا لكان عذرا للكفّار ، وردّه الزجاج بأنها نافية في قراءة الكسر ، يجب ذلك في قراءة الفتح ؛ وقيل : نافية ، واختلف القائلون بذلك ، فقال النحّاس : حذف المعطوف ، أي : أو أنهم يؤمنون ؛ وقال الخليل في قول له آخر : «أنّ» بمعنى «لعلّ» مثل «ائت السّوق أنّك تشتري لنا شيئا» ، ورجّحه الزجّاج وقال : إنهم أجمعوا عليه ؛ وردّه الفارسي فقال : التوقّع الذي في «لعلّ» ينافيه الحكم بعدم إيمانهم ، يعني في قراءة الكسر ، وهذا نظير ما رجّح به الزّجاج كون «لا» غير زائدة ؛ وقد انتصروا لقول الخليل بأن قالوا : يؤيّده أن «يشعركم» و «يدريكم» بمعنى.
وكثيرا ما تأتي «لعلّ» بعد فعل الدّراية نحو : (وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى) (٣) [عبس : ٣] ، وأن في مصحف أبيّ وما أدراكم لعلها. وقال قوم : «أنّ» مؤكدة والكلام فيمن حكم بكفرهم ويئس من إيمانهم ، والآية عذر للمؤمنين ، أي : أنكم معذورون لأنكم لا تعلمون ما سبق لهم من القضاء من أنهم لا يؤمنون حينئذ ، ونظيره : (إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ (٩٦) وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ) [يونس : ٩٦ ـ ٩٧]. وقيل : التقدير : لأنهم ، واللام متعلقة بمحذوف ، أي : لأنهم لا يؤمنون امتنعنا من الإتيان بها ، ونظيره : (وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ) [الإسراء : ٥٩] ، واختاره الفارسي.
واعلم أن مفعول (يُشْعِرُكُمْ) الثاني ـ على هذا القول ، وعلى القول بأنها بمعنى «لعلّ» ـ محذوف ، أي : إيمانهم ، وعلى بقيّة الأقوال «أنّ» وصلتها.
الموضع الرابع : (وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ) (٩٥) [الأنبياء : ٩٥] ، فقيل : «لا» زائدة والمعنى : ممتنع على أهل قرية قدّرنا إهلاكهم أنهم يرجعون عن الكفر إلى قيام الساعة ، وعلى هذا فـ «حرام» خبر مقدّم وجوبا لأن المخبر عنه أن وصلتها ؛ ومثله : (وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ) [يس : ٤١] «لا» مبتدأ ، و «أن» وصلتها فاعل أغنى عن الخبر كما جوّزه أبو البقاء ، لأنه ليس بوصف صريح ، ولأنه لم يعتمد على نفي ولا استفهام. وقيل : «لا» نافية ، والإعراب إمّا على ما تقدّم ، والمعنى ممتنع عليهم أنهم لا يرجعون إلى الآخرة ، وإما على أن «حرام» مبتدأ حذف خبره ؛ أي : قبول أعمالهم ، وابتدىء بالنكرة لتقيّدها بالمعمول ؛ وإمّا على أنه خبر لمبتدأ محذوف ، أي والعمل الصالح حرام عليهم. وعلى الوجهين فـ (أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ) تعليل على إضمار اللام ، والمعنى : لا يرجعون عما هم فيه ، ودليل المحذوف ما تقدّم من قوله تعالى : (فَمَنْ