قيل : ألم يجز سيبويه رحمهالله : «سرت الليل» ، تريد : ليل ليلتك ، والنهار ، تريد نهار نهارك ، فهلا أجزتم مذ الليل ومذ النهار ، على هذا المعنى؟ فالجواب : إنّ ذلك لا يتصوّر و «مذ» توجب التصرف لما تدخل عليه لأنّها ترفعه أو تجره ، ولما كان الزمان يقع بعدها لذلك لم يدخل العرب واحدة منهما على الصباح والمساء إلّا قليلا ، لأنّه في الأصل اسم في موضع المصدر بمنزلة العطاء ، فالأصل : أمسى إمساء وأصبح إصباحا ، ثم وضع الصباح والمساء في موضع المصدر ، فلمّا استعملا في الزمان ، ولم يكن الأصل فيهما ذلك ، لم يجز أن تجرهما «مذ» و «منذ» ، ولا أن يرتفعا بعدهما.
ومن راعى أنّها قد كانت تكون في الزمان أدخلهما في جملة الأزمنة ، فجرهما بـ «مذ» و «منذ» ورفعهما.
وإن وقع ما ليس بزمان بعدهما يؤوّل ، فإن قلت : «ما رأيته مذ زيد قائم ومذ الحجّاج أمير» ، كان الزمان محذوفا والجملة مضافة له. وأسماء الزمان تعلّق عما تخفضه باتفاق ، ومن غيرها ولا يتعلق خافض سوى ما ذكر. وإذا قلت : ما رأيته مذ أنّ الله خلقني ، فالزمان عند الفارسيّ محذوف لأنّ «أنّ» ليست زمانا.
ومن الناس من لم يحذف مضافا ، وجعل «أنّ» مصدرا يراد به الزمان بمنزلة : «خفوق النجم» و «مقدم الحاجّ». والقول الأول أحبّ إليّ لأنّهم لا يقولون : «مذ الصباح» ، إلّا قليلا ، فالأحرى أن لا يجيزوا بها «أنّ» التي تتقدر بالمصدر ثم يكون ذلك المصدر زمانا.
وإذا قلت : «ما رأيته مذ يومان» ، فالناس مختلفون في الرفع لما بعد «مذ». فمنهم من ذهب إلى أنّه ارتفع بفعل مضمر وهو الكسائي. وذلك باطل لما تقدّم في أول الباب. وأيضا فإنّهم يقولون : «ما رأيته مذ أن الله خلقني» ، والجملة لا تكون فاعلة ، وكذلك قولهم : «ما رأيته مذ زيد قائم» ، فهذا المذهب فاسد. ومنهم من قال : إنّه ارتفع على الابتداء ، و «مذ» خبر مقدّم ظرف ، والتقدير : بيني وبين لقائه يومان. وهو أبو القاسم.
وزعم الفارسي وأبو بكر أنه خبر مبتدأ وأنّ التقدير : مدّة ذلك يومان ، وهذا أولى ، لأنّه يطرد ولا ينكسر أصلا ، ومذهب أبي القاسم ينكسر ، ألا ترى أنّه لا يسوغ في «ما رأيته مذ يوم الجمعة» هذا التقدير لأنّك إن قلت : «بيني وبين لقائه يوم الجمعة» كنت كاذبا ، لأنّ