بينك وبين لقائه أكثر من ذلك وهو ما بعد يوم الجمعة. وإذا قلت : أول ذلك يوم الجمعة ، جاز لأنّك أخبرت بأول الانقطاع أنّه كان في يوم الجمعة ثم اتصل.
فمذهب أبي علي الفارسي أولى لاطراده.
واعلم أنّ «مذ ومنذ» إذا وقع بعدهما الزمان ووقع بعدهما الفعل فلا بدّ أن يكون ذلك الفعل ماضيا ، وإن كان مضارعا ، فلا يجوز إعماله في ظرف ماض ولا مستقبل ، فلا تقول : «ما رأيته مذ زمن يقوم أمس» ، لتنافر ما بين «يقوم» و «أمس». وكذلك لا يجوز : «ما رأيته مذ زمن يقوم غدا» ، لأنّ معناه الماضي ، ولا يقع المضارع موقع الماضي إلّا في مواضع محفوظة. فإن جئت بفعل مضارع ، فإنّما يكون وحده غير معمل في شيء ، ويكون على حكاية الحال ، فتقول : «ما رأيته مذ زمن يقوم» ، تريد : منذ زمن كان فيه يقوم.
واعلم أنّ «مذ» و «منذ» إذا دخلت واحدة منهما على الفعل ، فلا بدّ من أن تكون الصيغة ماضية ، فتقول : «ما رأيته مذ قام زيد» ، ولا يجوز : «مذ يقوم زيد». وعلّة ذلك أنّ الفعل إذا وقع بعدهما ، فلأنّه على تقدير زمن محذوف ، فهو هنا مجاز ، فكرهوا أن يكون ثمّ مجازان : حذف الزمان وحكاية الحال.
واعلم أنّك إذا أوقعت بعدهما الليالي فإنّ الأيام داخلة معهما ، فإذا قلت : «ما رأيته مذ ليلتان» ، كنت فاقدا له ليلتين ويومين ، فهو انقطعت رؤيته مثلا في عشيّة يوم الجمعة ، ثم اتصل ذلك إلى عشية يوم الأحد ، ولا يجوز أن يكون ذلك اتصل إلى غدوة الأحد إلّا قليلا ، لأنّ العرب كنّت بالليالي عن الأيام ، ولم تفعل ذلك بالأيام. فإذا قلت : «ما رأيته مذ ثلاثة أيام» ، أمكن أن يكون انقطاع الرؤية من ليلتين ، لأنّها لم تكنّ عن الأيام إلّا بالبياض.
واعلم أنّ «مذ» و «منذ» إذا دخلا على أسماء الاستفهام ، فلا بدّ أن يكون ما دخلا عليه يستعمل ظرفا واسما. فيقول : «ما رأيته مذ ثلاثة أيام» ، وأنت لم تدر العدد ، فتقول : مذ كم؟ ويقول : ما رأيته مذ يوم الجمعة ، فلم تدر ابتداء الغاية فتقول : مذ متى؟ ومذ أي وقت؟ ولا يجوز : «مذ مه» ، لأنّ «ما» لا تكون ظرفا و «متى» و «كم» يستعملان ظرفين.
ومن النحويين من أجاز : «مذ مه»؟ لأنّها قد تشبّه بالظرف ، ألا ترى أنّها تكون مع الفعل بمنزلة مصدر ، وذلك المصدر يكون ظرفا ، نحو قول العرب : «سبحان ما سبّح الرعد بحمده». وكذلك سائر أسماء الزمان ، بشرط أن تكون متصرفة ، فتقول : «ما رأيته مذ الشتاء