وهذه الأمور تدل على حكمة الرب وعقوبته لكل قوم بما يناسبهم ؛ ولما لم يكن في قوم نوح خير يرجى غرق الجميع. والله المستعان.
فتأمل هذا الفصل وعظم فوائده وتدبر حكمته ، فإنه سر عظيم من أسرار القرآن العظيم ، كقوله تعالى : (أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ ، وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ ، وَأَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى) (محمد : ١٥) ، فأعاد ذكر «الأنهار» مع كل صنف ؛ وكان يكفي أن يقال فيها : «أنهار من ماء ، ومن لبن ، ومن خمر ، ومن عسل» ؛ لكن لما ٣ / ٣٣ كانت الأنهار من الماء حقيقة ؛ وفيما عدا الماء مجازا للتشبيه ؛ فلو اقتصر على ذكرها مع الماء وعطف الباقي عليه لجمع بين الحقيقة والمجاز.
فإن قلت : فهلاّ أفرد ذكر الماء وجمع الباقي صيغة واحدة؟ قيل : لو فعل ذلك لجمع بين محامل من المجاز مختلفة في صيغة واحدة ، وهو قريب في المنع من الذي قبله.
فائدة
قد يستثقلون تكرار اللفظ فيعدلون [عنه] (١) لمعناه ؛ كقوله تعالى : (فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً) (الطارق : ١٧) ؛ فإنه لما أعيد اللفظ غيّر «فعّل» إلى «أفعل» فلما ثلّث ترك اللفظ أصلا ، فقال : «رويدا».
وقوله تعالى : (لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً) (الكهف : ٧٤) ، ثم قال : (إِمْراً) (الكهف : ٧١).
قال الكسائي (٢) : معناه شيئا منكرا كثير الدهاء من جهة الإنكار ؛ من قولهم : أمر القوم إذا كثروا.
قال الفارسيّ (٣) : وأنا أستحسن قوله هذا.
وقوله تعالى : (ارْجِعُوا وَراءَكُمْ) (الحديد : ١٣) ، قال الفارسي : (وَراءَكُمْ) (الحديد : ١٣) في موضع فعل الأمر أي تأخروا ؛ والمعنى ارجعوا تأخروا ؛ فهو تأكيد وليست ظرفا ؛ لأن الظروف لا يؤكّد بها.
__________________
(١) ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوعة.
(٢) هو عليّ بن حمزة الكسائي انظر ترجمته في ١ / ٤٧٧.
(٣) هو الحسن بن أحمد بن عبد الغفار ، الإمام أبو علي الفارسي ، تقدمت ترجمته في ١ / ٣٧٥.