وإنّها حقّا لأذن واعية تلك التي تعاين الغيب من خلال الشهود ، وتتسع آفاقها لرؤية المستقبل عبر الحاضر ، فلا تفاجأ بالواقعة ، إنّما تأتي مستعدة لتجاوز عقبتها بزاد التقوى وذخيرة العمل الصالح. بلى. إنّ الواعين يعيشون في الدنيا ولكنّ أرواحهم في الآخرة ، بل إنّ حضورها في قلوبهم أعظم من حضور الدنيا ، فتراهم لا يغفلون عنها لحظة واحدة ، وحيث ينقل لهم القرآن مشاهد منها فكأنّها قائمة بين أعينهم وقلوبهم ، كما وصفهم صاحب الأذن الواعية الإمام علي (ع) بقوله : فإذا مرّوا بآية فيها تشويق ركنوا إليها طمعا ، وتطلّعت نفوسهم إليها شوقا ، وظنوا أنّها نصب أعينهم ، وإذا مرّوا بآية فيها تخويف أصغوا إليها مسامع قلوبهم ، وظنّوا أنّ زفير جهنم وشهيقها في أصول آذانهم ، فهم حانون على أوساطهم ، مفترشون لجباههم وأكفّهم وركبهم ، وأطراف أقدامهم ، يطلبون إلى الله تعالى في فكاك رقابهم (١) ، وكل ذلك ينعكس على سلوكهم في الحياة.
ولقد جاءت الآية (١٢) مؤكّدة على دور الآذان الواعية بين الحديث عن تاريخ الأقوام السالفة (الآيات) ، والحديث عن الآخرة (الآيات ١٣) في هذا الدرس وامتدادها حتى الآية (٣٧) في الدرس اللاحق ، لأنّها وحدها القادرة على استيعاب مواعظ التاريخ وآياته ، والإيمان بحديث الوحي عن الآخرة ووعيه ، فحقائق الغيب ـ سواء غيب التاريخ أو غيب الآخرة ـ حقائق كبيرة ، بحاجة إلى أذن مرهفة تنفذ بسمعها من الآيات إلى ما تهدي إليه ، وقلب واسع كبير يحتمل أن يكون وعاء لها.
(فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ)
ويبدو أنّها النفخة الثانية لأنّها التي يقوم فيها الناس للحساب والجزاء ، قال
__________________
(١) نهج البلاغة / ج ١٩٣ ص ٣٠٤