والآية تستنكر على الكفّار بالرسالة مسارعتهم في الفرار من دعوة الرسول (ص) ، كأنّهم قطيع بعير شاردة ، أو كما وصفهم تعالى حال إعراضهم عن التذكرة : (كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ* فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ) (١) حيث لا يثبتون قبل الرسول الذي يحمل إليهم منهج الفلاح والعزة في الدنيا والآخرة ، ولا يعلمون أنّهم بذلك الإسراع في الفرار إنّما يسارعون في الذلّ والفشل ، وليس كما يزعمون مسارعة في الخير ، وهذا ما يعاينونه في الآخرة (يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ* خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ) ، وهاتان الآيتان بيان واضح لمعنى الإهطاع أنّه الإسراع.
[٣٧ ـ ٣٩] ولا يفرّ الكافرون قبل الرسول في صفّ منتظم واحد ، بل في صفوف مختلفة ، وذلك لأنّ المسارعة في الفرار من الحق موقف مبدئي اجتماعي سياسي يتخذه المهطعون لعوامل متفاوتة بينهم ، مما يجعل مواقفهم التابعة للأهواء مختلفة ، فمن مشرق ومن مغرّب كما يقول الله ويصف القرآن :
(عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ عِزِينَ)
أي متفرقين جماعات كلّ ينتسب إلى جماعة مختلفة. وأصل العزي من النسبة ، يقال : تعزّى إليه يعني انتسب ، والعزية : الانتساب (٢) ، قال الأزهري : عزا فلان نفسه إلى بني فلان ، يعزوها عزوا ، إذا انتمى إليهم ، والاسم العزوة. وكأنّ العزوة كل جماعة اعتزاؤها (وانتسابها) إلى أمر واحد (٣). ولقد رأينا كيف أنّ الانحراف عن الرسالة صيّر الناس مذاهب وطوائف ، بينما كانت الرسالة ـ لو استجابوا لها ـ تجمعهم أمة واحدة قوية وعزيزة .. إلّا أنّهم مزّقوا أنفسهم بالضلال
__________________
(١) المدثر / ٥٠ ـ ٥١.
(٢) المصدر / مادة عزي بتصرف.
(٣) التفسير الكبير ج ٣٠ ـ ص ١٣١ ـ ١٣٢.