دعوتهم وجهادهم ، إنما يسخرون كل طاقاتهم ، ويصرفون كل أوقاتهم من أجل رسالتهم وأهدافهم ، يدفعهم إلى ذلك أمران مهمّان : أحدهما : الرغبة في ثواب الله وخشية عقابه ، والآخر : إحساسهم بعظمة أهدافهم وتطلعاتهم ، وأن بلوغها لا يمكن إلّا بالجد والاجتهاد والمزيد من السعي ، إذ الأهداف كبيرة والإمكانات محدودة ، فلا بدّ من سد النقص الكمي في العدد والعدة بالكيف ، الأمر الذي لا يجعل حتى ليلهم ـ كما يتصور البعض ـ وقت راحة واسترخاء ، فإنهم إن لم يشتغلوا فيه بدعوة الناس والأدوار الاجتماعية المباشرة ، فسيجعلونه فرصة للتفكير في شأن رسالتهم ومسئولياتهم ، والاتصال بربهم تعرّضا لنفحاته ومرضاته ، وتلقّيا لإرادة العمل الدؤوب في سبيله ، وتزودا بالإيمان وروح التسليم.
ولكن جهود نوح ما كانت تنفع قومه لأن بينهم وبين دعوته حجبا سميكة من الإصرار والتحدي الأعمى للحق ، بل كانت تزيدهم فرارا منه ، وبعدا عن الحق ، وهذه من خصائص الصراع بين الحق والباطل ، انه كلما صعدت جبهة الحق من تحركها ونضالها ازدادت جبهة الباطل في عنجهيتها وعنادها.
(فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلَّا فِراراً)
وقد احتار المفسرون بسؤالهم : كيف يعقل أن تكون دعوة نوح سببا لفرار قومه من الحق؟ إلا أن المسألة طبيعية وقد أكدنا في مواضع من تفسيرنا على القول بأن في داخل الإنسان ضميرا يدعوه الى الحق (فطرته ونفسه اللوامة وعقله) وحينما يعقد الكفّار عزمهم على رفض الإيمان فإنهم يواجهون حربا نفسية باطنية مع الضمير ، مما يدعوهم لتحدي عقولهم ووجدانهم ، ومن جملة وسائل التحدي للحق التهرب من مجالس الدعوة والدعاة ، وذلك لإقناع النفس بعزة الإثم ، وفي عالم السياسة لا يخفى على المراقب أن وجود الحركات الرسالية في مجتمع ما تؤثر على النظام القائم