فحذّرني كما حذرتك (١) ومن ظاهر الأخبار أنه ـ عليه السلام ـ عاصر ثلاثة أجيال ، كلها كانت لا تؤمن به إلّا قليل منهم. لأن معدل الأعمار يومئذ كان ثلاثمائة سنة تقريبا. قال الصادق (ع): «كانت أعمار قوم نوح ثلاثمائة سنة» (٢).
[٨ ـ ١٢] وأمام الموقف الصلف الذي اتخذه قوم نوح (ع) ضده وضد رسالته لم يجعل خياره الهزيمة والتراجع ، ولا التوافق والمداهنة ، إنما أصر بعزيمة الإيمان على المضي قدما نحو الهدف ، وأداء الرسالة بأكمل وجه ، فهو متيقن من الحق الذي بين يديه ، ولا يساوره أدنى شكّ فيه ، فالأهداف والقيم بالنسبة اليه ثوابت لا تقبل التبديل أو التحويل ، وهذه من أهم خصائص الخط الرسالي الأصيل. ولذلك عمد شيخ المرسلين الى تغيير أسلوبه.
(ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهاراً)
اي صارح قومه بأمره ، فبدل أن يطرح أهدافه وقيمه لمن يتصل بهم بصورة غير مباشرة ، خشية ردات الفعل ، أو خشية عدم استيعابها جاهرهم بها.
(ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْراراً)
ومن الآيتين يتضح لمن يدرس تاريخ الحركة الرسالية في عصر نوح (ع) انها كانت تنتقل بين الحين والآخر من أسلوب الى غيره تبعا لمقتضيات الظروف ، وهذه مسيرة طبيعية عند الحركات الرسالية وبالخصوص تلك التي يمتدّ عمرها اجيالا وتعاصر تطورات كثيرة ، فليست اذن العلنية صحيحة على طول الخط ، كما أن
__________________
(١) الدر المنثور ج ٦ ص ٢٦٨
(٢) موسوعة بحار الأنوار ج ١١ ص ٢٨٩