والذي يبدو لي إمكانية الجمع بين القولين ، إذا عرفنا أنّ للرياح ملائكة موكلة بها ترسلها وتزجرها بأمر الله ، بالذات وأنّ الصيغة جاءت للمبني للمجهول. ومن هذا المنطلق نستطيع القول بأنّ الآيات ظاهرها الرياح وباطنها الملائكة ، أمّا عن إلقاء الذكر الذي نتلوه في السياق فيمكن تأويله بالرياح والملائكة معا ، فإذا أوّلنا «المرسلات» بالملائكة فإنّها تلقي وحي الله وآياته إلى الأنبياء ثم إلى الناس. وإذا أوّلناها بالرياح فإنّها الأخرى تلقي الغيث الذي يعدّ تذكرة للناس.
ويمكن أن يقال بأنّ «المرسلات عرفا» تعني الرياح التي تكون في صالح الناس وخيرهم ، أي المرسلات بما يعرفه الناس ويستسيغونه من غيث وبشارة.
وأنّى كان فإنّ إجمال مثل هذه الكلمات يجعلنا نوصل الحقائق ببعضها ، فلا نميّز بين الرياح المرسلات بالغيث والبركة وبين الملائكة الموكّلين بها أو المرسلين بالوحي والرسالة ، فإنّ فائدة القسم تتحقّق بهما ، كما أنّهما معا من شواهد وعد الله ، ويصحّ القسم بهما ، وهذا من روائع النهج القرآني في الأدب.
(فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً)
في التبيان : يعني الرياح الهابّة بشدّة ، والعصوف مرور الريح بشدة ، وعصفت الريح تعصف عصفا وعصوفا إذا اشتدّ هبوبها (١) ، وإذا صرفنا المعنى إلى الملائكة فللعصف وجهان : أحدهما : السرعة ، فإنّ العرب تقول : فرس عصوف أي سريع الحركة ، قال العلّامة الطباطبائي : والمراد بالعصف سرعة السير ، استعارة من عصف الرياح أي سرعة هبوبها ، إشارة إلى سرعة سيرها إلى ما أرسلت إليه (٢) ، والوجه الآخر : الإهلاك والتدمير ، قال الرازي : يعني أنّ الله لمّا أرسل أولئك
__________________
(١) التبيان / ج ١٠ ص ٢٢٣.
(٢) الميزان / ج ٢٠ ص ١٤٦.