ممازحة ربان السفينة
جرى بيني وبين بعض أكابر الباخرة حديث كان في ضمنه دعابة ، وذلك لما رأى عندي ساعة ذهبية بها وجهان للوقت العربي والفرنساوي ، فقال لي إذا كنت رجلا مليحا فإنك تسلم لي هاته النقالة. وكان بعض الأوداء أرسل لي بها تذكارا.
واشتراها لي من مملكة بعيدة. والتونسي يتحتم عليه أن يكون بساعته حس بأن لخط زوال بلده وخط أواسط أروبا المعمول به رسميا ، كما يلزمه لغتان وعادتان ، مثلما له في الكتابة تاريخان ، وفي المعاملة مسكوكان :
وللناس عادات وقد ألفوا بها |
|
لها سنن يرعونها وفروض |
فمن لم يعاشرهم على العرف بينهم |
|
فذاك ثقيل عندهم وبغيض |
فأجبته بأنه إذا أراد ما يتذكرني به فنوجه له ذلك من المملكة التونسية مثلما سلم أهالي القيروان زربية إلى قبطان سفينة قرطاج. أما المنقالة فإنها غير مصنوعة بالقيروان. فقال لكن كلما نظرت إليها أتذكركم. وكاد أن يحجني بهاته المداعبة فقلبت عليه الدعوى وقلت له : من المعلوم أن المفكرة إنما يسلمها الراغب في المودة ويظهر أنكم كذلك. وعليه فلا مانع من أن تسلموا لي ما أتذكركم به. وإن كنت لا أنسى هذا اليوم ولا أرغب فيما يفكرني فيه. كما أنه من العادة أن تكون المفكرة حسب اختيار المهدي لا باقتراح المهدي له لشيء مخصوص. فسلم ذلك ومرت الممازحة معه لطيفة قضينا بها حصة من الزمن ونحن إذ ذاك بالقرب من مرسيليا في حاجة إلى السمر. وكانت الأمواج لطيفة تعبث بالسفينة وهي تتهادى وتتمايل كالمتغلب في حرب ، والفايز في عراك يتماشى الخيلاء ، ويتيه على الأعداء ونحن فيها كدوح تحركه الأم الشفوقة بمرضعها لتسكن ما عنده وتسليه عن مطالبه. وكأن السفينة علمت بأننا أحوج لذلك كله من الرضع فراحت تجاملنا وتسلينا ونحن نشكر هاته الأم التي حملتنا في بطنها ثلاثين ساعة وزادت على ذلك ست ساعات ونصفا