في مثلها بوطنه مدة حياته وفي وسط من جنسه ، مثل أهاليها أرباب المعاشرة والمعارف وأصحاب العمل والهدو. وبلا شك يكونون كذلك سكان الأماكن التي جملتها يد القدرة وزركشتها أنامل العلم والاجتهاد. يوجد هذا كله حوالي كرونوبل الجميلة المنظر ، الشامخة الجبال ، المتواضعة بسايط المروج ، المشتبكة الغابات ، المجردة سيوف الأودية ، الباسمة الرياض. فبأي لسان يعبر عن محاسنها؟ وبأي بنان يعرب عن منازهها؟ ولا تسأل عن البصر يوم ودعت أهاليها وبارحت مياهها وظلها ، فقد كان الطرف من منافذ القطار يغتنم المشاهدات الأخيرة منها وهي مارة كمناظر السينما ، ولكن قدود جبالها لم تشح علينا بالوقوف ساعة من الزمن مثل سكانها ناظرة لنا نظرة مدع مخلص ، فكأنها علمت منزلة اعتبارنا لها فقابلتنا بالمثل. وأما الفكر فإنما تسلى عن البعاد لكونه أخذ بين جوانحه مناظر تلك البلاد. وما التسلي عند الوداع إلّا لتعليل النفس بإمكان الاجتماع. وهكذا جنيف وبحيرتها وفيفي ومنترو. فهاته الجهات نزهة الحواس وراحة الأفكار ولذة الحياة.
ظاهر الأمر وباطن الحقيقة
شاهدت ما شاهدت وكتبت ما كتبت على مناظر الأرض ومتاع الدنيا وأنا أعلم أن هذه المحاسن كلها في نظر العين لا نظر الفؤاد.
والبصر كثيرا ما ينخدع كمشاهدته الشاطئ من السفينة حال سيرها يحسبه سائرا. ونظر الإنسان من القطار في مبدأ سيره إلى ما حواليه من الأشياء فيراها مارة به. ويحسب السحاب يسعى نحو القمر. والحقيقة خلاف ذلك. أما النظر بعين البصيرة لمثل هاته الجمادات من جبال ومياه وغابات فإنها ترى كلا شيء ولا تساوي جناح بعوضة أو قيمة خرذلة من نعيم الحياة الآخرة ، وما زخرف الحياة الدنيا ونعيم الأغنياء والأصحاء في ظاهر الأمر إلا غرور. ولو تتبعت أحوال هؤلاء واطّلعت على باطن أعمالهم لوجدتهم في عناء وأفئدتهم تردد كلمة «لا راحة في الدنيا» ، على أن المناظر الطبيعية وحطام هاته الحياة كيف يلذ لبشري يعلم أن من بين إخوانه وأحفاد أبيه آدم من يفترش التراب ، ويلتحف السحاب لا يملك من الدنيا قطميرا ، ولا يخلون