النبات. كما أن الاضطهادات التي عرضت قبل صدر الإسلام وبعده لسكان المدن وهم أضعف خلق الله أموالا وأبدانا تجهمت بها الحواضر في أعين الناس ورأوها بصفة أقفاص يسامون فيها سوء العذاب. وكلما التفتوا إلى بساط البداوة تجلى في أعينهم جميلا فتنكبوا إليه وقنعوا بما انتشر على مائدته من النبات وسروا على ما في سقفه من النجوم ، وناموا به على سرر العز فأنسوا بها وهم جوار الوحوش واستغنوا على كثير الحاجات ، وما هم فقراء ، فأخذوا بحظ من العصور الأولى لمبدأ الإنسان المسماة بالدور الذهبي لما فيه من راحة بدن الإنسان وقلبه وحواسه من التكاليف. وربما عرف أرباب التحزب للحواضر ما لأهل البداوة من مكان الاعتزاز فصمدوا إليهم في النوايب واستجاشوا بهم على أعدائهم. وهل أتاك حديث عبد المومن بن علي مع عرب سليم واستدعائه لهم بشعره للتوثب بهم على الأندلس ، وتقدم هذا في بعض الفصول من المقدمة ؛ وما لملوك بني حفص بتونس وملوك بني حمو بتلمسان في شد أزرهم والتعاظم على أعدائهم بكماة قبائل العرب. والدول تستجد عمرا جديدا سالما من الهرم متى اتخذت جندها من أهل البادية عوض المعتادين للترف على ما أشار إلى طرف من هذا ابن خلدون وخبرته المشاهدة.
ولم يجهل أرباب الحضر مقام أهل البادية في الكرم فقصدوهم ابتغاء معروفهم.
أما محمود الأخلاق وسلامة الأبدان وفصاحة اللسان فكفاك أن الملوك يرسلون بأبنائهم إلى البوادي ليأخذوا من جبلة أبنائها ويشبوا على كريم أخلاقها ويتغذوا بفصاحة شيحها وقيصومها.
وما قررناه من أن الاضطهاد إنما عرض لسكان المدن قبل صدر الإسلام وبعده ، حيث أن صدر الإسلام استوصى بأهل المدن خيرا ، ولعل ذلك لما قررناه في شأنهم من الضعف ولكونهم أرباب الحذق في الصنائع التي تسد حاجة البشر. فمراعاتهم ومعاضدتهم من قبيل الإعانة على العمران لما لهم من الرقي الفكري في هذا الشأن.
والحواضر التي تطفأ بها حرارة النفوس وتبرد العزايم وتخضع الرقاب وتستسلم الإرادة هي التي يكون بها الاضطهاد سائدا والاستبداد في الأحكام رائدا والضغط على الحرية متزايدا. فتتربى ملكة الجبن وتذهب معاني الرجولية ، وتنكسر شوكة الشهامة وتتولد الرذايل ، فتفسد الطباع ، وينكمش أرباب الأموال والعلم والصناع.