حياة المدن وموقع باريز
يراعى في تأسيس المدن ما يدوم به عمرانها ويسعد به سكانها وأول ما يعتني به :
١ ـ مواد المعاش والشراب وسهولة تناولها وملايمتها. ٢ ـ ثم تحصينها من كل عادية وعدو. ٣ ـ ثم تحسينها بالقصور الشاهقة والبطائح المتسعة والبساتين المظللة والبناءات المرتبة في مثل الطرقات والأسواق وديار التمثيل وكل ما يرجع للمجتمع العام ، والنظافة والتنوير. ٤ ـ ثم ترقية أدوات النقل راحة البشر وتوفيرا للوقت. ٥ ـ ثم إجادة الصنائع. والتجارة بسائر البضائع لتتوفر الآمال لسكان المدينة بما يشترى منها مما يعز وجوده في الضواحي وأقطار البساطة. ٦ ـ وأهم شيء لاستدرار الأموال بالمدن ترقية العلوم والأمن وإعداد ما تتوفر به راحة الغرباء ، ويتطلبه منها البعداء ، فتتزاحم الآمال على قصدها وتشد الرحال لساحتها وذلك هو عين الحياة للمدينة وطريق الثروة وزمن الرفاهية ، فتأتيها إلى منازلها الرجال والأموال ، وتفوز في مكانها بجميع الآمال.
١ ـ جمعت هذه الصفات مدينة باريز فيمدها نهر الساين بالماء العذب ويسقي سكانها ، سواء منهم من كان في شرقي المدينة أو وسطها أو غربيها ، وقد تقدم لنا في الكلام على مدينة ليون أن الأنهار تعشق المدن في فرانسا وبينا أن ذلك من حسن الوضع والتدبر لها عند التأسيس. أما ضاحية باريز فهي أراض جيدة للزراعة وبها الغابات والبساتين ، فمواد الغذاء والوقد متوفرة وقريبة من المدينة.
قال المؤرخ الخبير بطرق العمران ابن خلدون ما معناه : يراعى في البلد أن يكون على نهر أو بإزائه عيون عذبة ثرة لتسهل على الساكن حاجة الماء الضرورية حيث وجوده مرفقة عظيمة عامة. وقال : قد يكون الواضع غافلا عن حسن الاختيار الطبيعي أو إنما يراعي ما هو أهم على نفسه وقومه ولا يذكر حاجة غيرهم ، كما فعله العرب لأول الإسلام في المدن التي اختطوها بالعراق وإفريقية ، فإنهم لم يراعوا فيها إلّا الأهم عندهم من مراعي الإبل وما يصلح لها من الشجر والماء الملح ، ولم يراعوا الماء ولا المزارع ولا الحطب ولا مراعي السائمة من ذوات الظلف ولا غير ذلك كالقيروان والكوفة والبصرة وأمثالها ، ولهذا كانت أقرب إلى الخراب لما لم تراع فيها الأمور الطبيعية.