جزيرة الأندلس بالإسبان ، فلم يناموا عن الأخذ بالثأر من المسلمين الذين سلبوا ملكهم وسكنوا أرضهم وتربصوا بهم الدوائر وهم في الجبال النائية عن بسائط الأندلس بعد قرون عديدة وسلطان قوي وعلوم زاهرة ، وحضارة باهرة ، وعمران مستبحر. فكل ذلك لم يغن شيئا ، فكيف بك وأوروبا الآن هي سيدة القارات وأممها بلغوا من الحضارة منتهاها وفي المعارف غايتها وفي نظامات الحرب أقصى المهارة ، وفي الصنائع غاية الدقة ، وفي عمران الأرض أحسن إجادة ، وفي التجارة أصبحت كل العوالم عالة عليهم في الملبوسات وسائر المقتنيات ، وفي الثروة باتت في ممالكهم خزائن المجوهرات النفيسة التي لا توجد عند سواهم. والمكاتب الواسعة المفعمة بغرائب الكتب ومئات آلاف المؤلفات وملايين المجلدات ، وديار الآثار ومصنوعات الأمم الغابرة بما يقصر القلم دون قيمة تلك المجموعات الغريبة. أما الذهب والفضة فيكفيك أنهم استعملوهما في الماعون والآلة والتحف ، وما بقي احتكروه في ديار البنوك والمصارف بقارتهم وعوضوه بالأوراق للمعاملة في أقطار الأرض. وحدثوا في الإحصائيات عن خزائن الدول ما يفوق خزائن قارون. فأروبا الآن هي معدن النقود وكنز الجواهر ، وخزينة كتب العالم ومجموعة آثار الأمم ، ومعمل لأكسيتهم وآنيتهم وأسلحتهم ولقطارات برّهم ، ولسفن بحرهم وأستاذهم الملقن ، ومالكهم المتمكن.
فهي القارة القديمة الحية في هذا الدور ، والتي لا يضرها ما تقدم من الأدوار السابقة فإنها ، ولئن تعلمت ذلك من أمم الشرق بالأندلس وإفريقيا وآسيا ، فإن هاته الأمم قد تعلمت أيضا ممن سبقها من أمم الشرق بالأندلس وإفريقيا وآسيا ، فإن هاته الأمم قد تعلمت أيضا ممن سبقها وارتقت بعدما زاحمت وتغلبت بعد ما غلبت. فأمة البربر بإفريقيا أتتها الحضارة وحسن السمعة من القرطاجنيين جالية الشام ، من الرومان البيزنطيين ، ولا أذكر الفندال وإن كنا نعلم أنهم شجعان أبطال ، إلّا أن مواطنهم «في جهات الدانمارك الآن» في ذلك العهد لا تعرف لهم حضارة ، وإنما هم رجال فتح وجسارة. حتى انهم يلقبونهم بربر أروبا لاكنهم أقدر على الأسفار وركوب الأخطار من برابرة إفريقيا الذين يألفون الجبال ، ولا يتجاوزون حدود أوطانهم في النزال.
وكذلك تسربت الحضارة لبرابرة إفريقيا من أمم آسيا فدافعوا أولا على البقاء في همجيتهم ومجوسيتهم وعيثهم وغيهم. والجاهل لا يحب التعليم فهو كالصبي لا بد