من تأديبه حتى ينقاد كرها ، ثم لا يلبث أن ينقلب طائعا ثم يصير طالبا ويحمد عند ذلك عاقبة أمره وينظر إلى أعطافه فيجد نفسه ارتقى إلى ما هو أحسن ، وينفر من سابق معيشته وتصغر في عينه منزلة النفوس الباقية على غباوتها حتى من ذوي قرابته ، وربما ساق تيار التمدن بعض الناس إلى العقوق والمروق. والعاقل يكرر شكر المعلم الذي ساق بنفسه إلى منجاتها وألبسها حلل كمالاتها. ويحمد الله الذي هداه ، ويعذر بالجهل من سواه ، وما التوفيق إلّا من عند الله. ويقول اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون. وأخيرا ألقى البربر بأيديهم إلى الغلب والانصياع ، وقلدوا العرب وامتزجوا بهم حتى عرفوا منهم قيمة الاجتماع. وذاقوا لذة الآداب من اللغة العربية ونالوا بواسطتها العلوم وساسوا بها دولهم ودونوا فيها كتبهم ، فامتازوا عن السائمة من ذلك العهد. مثلما أن السمعة في الأمم قبل الإسلام لليونان والهند وكل ذلك لا ينفي عن البربر الشهامة الفطرية والنجدة الموروثة والشجاعة الدائمة ، فكم قاوموا من أمم وكم نجبت فيهم من قواد ، وكم برعت فيهم من علماء ، فهم جيل قديم ثابت الفخر في سائر أدوار الأمم وتقلبات الدهر ، أشبه العجم بالعرب لقاء ونجدة وصبرا وفروسية. غير أنهم أغدر الناس لا وفاء بهم ولا عهد ، كما حدث عنهم موسى بن نصير في بعض مجالسه مع سليمان بن عبد الملك بن مروان. ولأروبا الفخر بزيادة الاعتناء ومداومة العمل والمحافظة على ما اقتبسته وترقية ما استفادته والزيادة على ما تعلمته.
قال السيد البشير صفر في جغرافيته : إن الرومان صاروا إسوة لممالك أروبا في أعمالها السياسية ، كما أن اليونان والعرب من بعدهم كانوا أساتذة أروبا في العلوم الرياضية والفلسفية. والآن اضمحل الرومان وانحط العرب واليونان وأصبحت أروبا أستاذ الجميع.
قلت فقد أحيت علوما لولاها لكانت في خبر كان ، بل لأغفلت وتنوسيت ولم تذكر على لسان. وأوجدت فنونا واخترعت صنوفا لولاها ما كانت تخطر بالبال أو ينتفع بها الإنسان. نعم إن العمل نتيجته السعادة ، والرقي ثمرته السيادة. مثلما ذكروا بأن العدل إن ساد عمّر ، والظلم إن دام دمّر. فأروبا من بين القارات القديمة هي الوحيدة القائمة دعائمها على أساس ، وتلك الأيام نداولها بين الناس.