كان هذا الحديث مع النفس هو موضوع السمر وتقصير حصة السفر فيما بين آرل ومرسيلياء آيبا في قطار خصوصي للمتفرجين عن ألعاب الثيران يوم الأحد في التياترو الروماني بآرل. ثم راجعت حافظتي في مرسيليا ، وقبل مبارحة تراب العدوة الشمالية عما ظهر لي من خلق وأخلاق وعوايد هاته الأمة لأرسم شيئا منه في كتاب الرحلة وحررت ما يأتي.
خلق الفرنساويين
سكان الحواضر على المتعارف عندنا والمعهود من قديم أكثر جمالهم مجلوب ومؤيد بالحلل والمصوغ. وفي البادية متى وجد الجمال فهو موهوب وفي غنى عن المحسن وما يحمر منه وجه الحقيقة. غير أن باريز وجهة ربات الجمال من كل بلد ، وبادية وصقع للتمعش والرفاهية التي لا تنال في غير باريز ، التي تقدر كل الكمالات حق قدرها ولا تبخس الناس أشياءهم. والسبب في ذلك الذوق اللطيف في سكانها والجدة واستبحار العمران والتغالي في لذات الحياة الدنيا. ذكرت لي سيدة في قومها روسية أن نساء باريز يضعون على وجوههم الأصباغ المبيضة والمحمرة. وأثنت على جمال الجراكسة وأخبرت بأن مسلمات القوقاز وجوههن مغطاة متى خرجن إلى الطرقات.
أما في منازلهن فكثير من أجسادهن غير مغطى. وأخبرني زوجها وهو حاكم إحدى مدن الروسيا ، بما يدل على ما انفردت به باريز من بين العواصم. كان نزل معنا في أتيل دوفمي ويجمعنا في بعض الأحيان السمر ليلا في كافي روايال بجوار باساج جوفروا. وجلوس القهوات في أروبا غير محظور. وقد قال الشيخ رفاعة المصري في رحلته إلى باريز : والقهاوي عندهم ليست مجمعا للحرافيش بل هي مجمع لأرباب الحشمة ، إذ هي مزدانة بالأمور النفيسة وأثمان ما فيها غالية جدا ، فلا يدخلها إلّا أهل الثروة ، وأما غيرهم فيدخلون بعض قهاوي خاصة بهم. قلت فهم لذلك لا يجلسون في مخازن البضائع ، أو تشتكي منهم دكاكين أرباب الصنائع. وكانت آلاف الرجال والنساء تمر أمامنا في شارع موتماتر المتصل بشارع الطليان ، وهما من أحسن مراكز العمران وحركة السكان بباريز. والنساء تظهر أكثر عددا من الرجال.