رفرفت على السفينة كالمرحبة بها طيور الخليج الموصل إلى تونس ، وهي أم البلاد كما سماها حازم في مقصورته ، فاستبشرنا بقرب الوصول إلى الرصيف الذي تأسس بباب العاصمة منذ عشرين عاما ١٨٩٣. فما هي إلّا نصف ساعة من قرية حلق الوادي إلى الرصيف حتى رأينا بعض الأقارب والأصدقاء في انتظارنا وأول من تمثل للبصر من بينهم صفي ودنا سيدي محمد بن الأمين الخلصي صاحب الحديث مع الراية ، ومن له في نادي المكارم أعلى راية. وهو من الذين يعلمون جيدا قول أبي بكر الخوارزمي من لم يذكر أخاه إلّا إذا رآه فوجدانه كفقدانه ، ووصاله كهجرانه.
ومما كنت أدرجته في بعض الرسائل له :
أقلامكم تهدي الأنام دروسا |
|
وعطاؤكم يحمي النوال دروسا |
بعد الإياب
كان الفرنساويون يسألونني كثيرا مشافهة وكتابة عقب رجوعي من السفر عن أهم ما رأيت في فرانسا ، وبالأخص عاصمتهم المحبوبة عندهم مدينة باريز وهم يعتبرونها جدا ويبالغون في مدحها ولا يغارون من رقي وكمالات سكانها ، وهذا على خلاف بعض الممالك في منافسات بعض البلدان لمدن العواصم ، وما هو الأمر الذي بقي في مخيلتي مما يعجب به الغريب ويؤثر عليه؟ فكان جوابي لهم واحدا سواء في مدة إقامتي بفرانسا أو بعد الرجوع منها.
١. وهو الإعجاب بعمران الأرض المخضرة الأديم بسائطها وجبالها غورها ونجدها ، وذلك أول شيء يستغربه الغريب وآخر شيء يبقى مطبوعا في مخيلته ترفرف عليه روحه في أوقات خلو البال وتتنزه فيه ، بلا مشقة أو ثمن برهة من الزمن تمر لذتها كأكل النائم :
لم يكن وصلك إلّا حلما |
|
في الكرى أو خلسة المختلس |
٢. وكمال التربية وانتشار المعارف بين سائر الطبقات.